تلخيصاً لخطاب سماحته في ذكرى استشهاد النبي الأكرم (ص) بحسينية أهل البيت (ع) في محافظة المحرق (البحرين) ليلة 28/ شهر صفر/ 1436
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ).
تلمح هذه الآية إلى مؤامرةِ قتلٍ دُبِّرت لاغتيال الرسول الأعظم، وهي ما أكّدته بعض كُتُب السنة، فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده (ج1 ص 408) بسند صحيحٍ بإجماعهم، عن عبد الله بن مسعود، قال: لأنْ أحلفَ تِسعاً أنَّ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلَّم) قُتِلَ قتلاً، أحبُّ إليَّ من أنْ أحلفَ واحدةً أنَّه لم يُقتلْ! وذلك بأنَّ الله عزَّ وجلَّ جعله نبيَّاً واتخذه شهيداً.
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي السنّي في شرح نهج البلاغة ج10 ص221: (ومات عليٌّ (عليه السّلام) شهيداً بالسّيف، ومات رسول اللَّه (صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم) شهيداً بالسُّمّ).
ولدى الشيعة أكثر، حتى قال الإمام الحسن السبط الزكي (ع) لأهل بيته: “إنِّي أموتُ بالسُّمِّ، كما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله)”.
وبسندٍ صحيح، عن أبي الصلت الهروي، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: “واللهِ! ما مِنَّا إلا مقتولٌ شهيدٌ”.
ونستدل أيضاً على ذلك بأن الشهادة من الكمالات، والرسول (ص) لا يخلو من أيّ كمال.
هذا موضوع، وأما موضوع حديثي هذه الليلة فهو عن التأسّي العملي برسول الله تطبيقاً للآية (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا). وأمهّد له بموضوع الإنقلاب الذي ذكرته الآية التي افتتحتُ بها الخطاب.. فهو إنقلاب في بُعدين.. بُعدٌ هو ما تعرفونه من اجتماع الإنقلابيين في سقيفة بني ساعدة وتدبير عملية القرصنة على الخلافة. وهذا ما تعرفونه وتسمعون عنه. ولكني أرى بُعداً آخر من الإنقلاب وقد يكون بعضنا متورّطاً فيه!!
ذلك هو الإنقلاب على قيم الرسالة وأخلاق الرسول ونهجه السياسي وعباداته وعدله واحترامه للناس وحبّه للخير وحرصه على السلام وتغليب صوت العقل والحوار الحكيم.
فهلاّ سألنا أنفسنا كم نحن متأسّون بهذه الشخصية التي عاشت قبل أربعة عشر قرناً وهي لاتزال تفرض نفسها على عقل الكاتب الإمريكي “مايكل هارت” حتى يجعله الأول من مائة عظيم غيّروا مسار التاريخ البشري.. هذا الكاتبُ مسيحيٌ ولكنه يعترف بشخصية نبيّ الإسلام الفريدة من نوعها.. فتهيمن عليه صفة الإنصاف فيعتمده العظيم الأول في كل طبعات كتابه بينما يغيّر درجات الآخرين ممن اختارهم من الأنبياء وغير الأنبياء.
سؤال أسألكم: هل قرأ المسلمون معالم شخصية نبيّهم العظيم كما قرأها هذا المسيحي الإمريكي؟!
بلى.. لو كانوا يقرأون شخصية رسولهم محمدٍ (ص) قراءة شمولية وبقصد التأسّي بالممكن من صفاته لكانوا مسلمين بالإسلام، ولكنهم تخلّفوا فأثبتوا وإلى هذا اليوم أنهم مسلمون بلا إسلام!!
إن هذا الخلل الذي عاشه المسلمون غالباً ويعيشونه اليوم هو الذي أنتج الدواعش وصنع أمثالهم في طول التاريخ. ومن بطن هذا الخلل خرجت كافة الأزمات الفكرية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والأسرية والنفسية التي تعاني منها الأمة الإسلامية…
ويعود سبب هذا الخلل إلى عدم تطبيق آية التأسّي. وفي تصوّري إن الإنقلاب الأول ما كان ليحدث وليستمر لولا الإنقلاب الثاني الذي يشترك فيه كثيرٌ من المسلمين وإلى يومنا ونحن الشيعة منهم أيضاً حيث نريد الإنتماء بالنبي (ص) في الإسم والعنوان ولا نريده في العمل بما طلبه منا النبي (ص)، علماً أننا نتلو هذه الآية الصريحة (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونََ).
فالعمل هو القضية كلّها.. بل الإيمان في حقيقته هو عملٌ أيضاً. وفي اختبار العمل يسقط كثير من الناس.. فالطيّبون منهم يكونوا طيّبين مع الذين يوافقونهم في الدين أو الرأي أو الإتجاه السياسي أو التقليدي مثلاً.. ولكن ليس هذا هو الفخر والبطولة، بل أن يكون الإنسان طيّباً مع الذي يخالفه ويؤذيه.. هكذا كان رسول الله مع اليهودي الذي كان يرمي القمامة في طريقه كل يوم ولما تخلّف ذات يوم طرق باب بيته ليسأل عنه، ولما عَلِمَ أنه مريض استأذن ودخل لعيادته. وهكذا نقرأ عفوه عن المشرك الذي وقف عليه ليقتله وسيفه على رقبة النبي الأكرم، ولما سقط قَفَزَ النبي ومسك السيف ووضعه على رقبة المشرك، فطلب منه العفو، فعفى عنه النبي فوراً.. وهكذا نرى تعامله مع المنافقين من أصحابه الذين نزلت فيهم سورة كاملة. وهكذا نقرأ عدله في الحكم ونطالع سيرته في الكرم والإحسان والنظافة والعبادة عظمة الأخلاق…
أين نحن اليوم من شخصية هذا الرسول الذي عرّف نفسه قائلاً: “أنا الرحمة الإلهية المهداة”.
أنظروا إلى هذه الآية التي تبيّن أهم صفات هذا الرسول القائد، ولنأخذ منها: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).
إنها نزلت في واقعة أُحُد المؤلمة على قلب رسول الله (ص) لتلك الهزيمة الموجعة التي كانت بسبب جمعٍ من الصحابة طمعوا في الغنائم فخالفوا أمر الرسول وتركوا مواقعهم وسبّبوا لإخوانهم القتل والجراحات لولا أن النبي والإمام علي سيطروا على توازن الموقف العسكري.
ترى القائد العسكري غير النبي وأهل بيته وبعد انتهاء الحرب وعند ساعة المحاسبة يتصرّف بالاستبداد وربما قام بإعدامات ميدانية لمن خالفوا الأوامر وجلبوا الخسائر.. ولكن الرسول الكريم طبّق الرحمة الإلهية هنا والتي تمثّلت في اللّين (لِنْتَ لَهُمْ) فلم يعاملهم بالفَظّ لساناً والغلظة قلباً. بل ويزيدهم من تلك الرحمة الإلهية (فَاعْفُ عَنْهُمْ) وهذا تنازلٌ من النبي عن حقه الشخصي كقائد، (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) بأن يطلب من الله أيضاً أن يتنازل عن حقه كربٍّ وإله، بل ويزيدهم من تلك الرحمة ليكسبهم إليه بإستعادة الثقة في أنفسهم، وذلك باستشارة هؤلاء الأصحاب لا في حكم الله وإنما في أساليب تطبيقه (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر) ثم يكون القرار الحاسم بيده لا بيد غيره (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) ولا تتوكل على حجم الإمكانات المادية.
هذه مجموعة صفات رسالية.. إني أسألكم، بالله عليكم، كم من الحكّام والقادة يعملون بهذه الآية؟!
فيا أيها الأحبّة كيلا نكون مثل هؤلاء الذين لم يتأسّوا برسول الله تعالوا نراجع أنفسنا فنغيّرها نحو الأحسن.. ثم لا تقفوا في علمكم وعملكم عند حدّ.. تقدّموا واسموا وارتقوا فهناك سعةٌ من التاسّي برسولٍ بدأ يتيماً وتقدّم شاباً وواصل طريقه في التسامي والإرتقاء حتي بلغ ما بلغ من العلوّ والاحترام حتى لدى عقلاء البشر من غير أمته.
نحن في هذه الليلة يجب أن نعاهده (ص) باتخاذ قرار التأسّي هذا في أخلاقه العظيمة وأفكاره الرشيدة وعباداته الواعية وجهادياته الصامدة وسياساته العادلة. وهكذا يكون انتماؤنا إنتماءاً رسالياً.
أيها المؤمنون.. أيتها المؤمنات: هذا شهر محرّم قد انصرم، ويومان باقيان على شهر صفر وينتهي.. لابد لنا أن نسأل أنفسنا ماذا تعلّمنا من حضورنا في مجالس الحسين.. لقد بَدَءا بالحسين وانتهيا بجدّ الحسين وهذا هو الوجه الآخر لمعنى الحديث النبوي الشريف “حسينٌ منّي وأنا من حسين”.. ولكن ماذا عن قرارنا في صناعة الجديد من المواقف التي تقرّبنا إلى الرسول الكريم كي نأتي في السنة القادمة إن شاء الله ونحن في ارتقاء يرضي الله تعالى ولا تشملنا شكوى رسوله الذي شكى قبلنا: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا).
أيها المؤمنون.. أيتها المؤمنات:
هذه الليلة.. ليلة استشهاد نبيّكم الحبيب المصطفى، وكان كما قال حفيده الإمام الباقر (ع): “لما قُبِضَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بات آل محمد (عليهم السلام) بأطول ليلة حتى ظنّوا أن لا سماء تظلّهم ولا أرض تقلّهم، لأنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله) وتر الأقربين والأبعدين في الله. فبينا هم كذلك إذ أتاهم آتٍ لا يرونه ويسمعون كلامه فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، ان في الله عزاء من كل مصيبة ونجاة من كل هلكة ودركاً لما فات (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) إن الله اختاركم وفضّلكم وطهّركم وجعلكم أهل بيت نبيّه (صلى الله عليه وآله) واستودعكم علمه وأورثكم كتابه وجعلكم تابوت علمه وعصا عزّه وضرب لكم مثلاً من نوره وعصمكم من الزلل وآمنكم من الفتن فتعزّوا بعزاء الله فإن الله لم ينزع منكم رحمته ولن يزيل عنكم نعمته فأنتم أهل الله الذين بهم تمّت النعمة واجتمعت الفرقة وائتلفت الكلمة وأنتم أولياؤه فمن تولاّكم فاز ومَن ظلم حقكم زهق، مودتكم من الله واجبة في كتابه على عباده المؤمنين. ثم الله على نصركم إذا يشاء قدير، فاصبروا لعواقب الأمور فإنها إلى الله تصير، قد قبلكم الله من نبيّه وديعة واستودعكم أوليائه المؤمنين في الأرض فمن أدى أمانته آتاه الله صِدقه، فأنتم الأمانة المستودعة، ولكم المودة الواجبة والطاعة المفروضة، وقد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد أكمل لكم الدين وبيّن لكم سبيل المخرج فلم يترك لجاهل حجّة فمن جهل أو تجاهل أو أنكر أو نسي أو تناسى فعلى الله حسابه والله من وراء حوائجكم وأستودعكم الله والسلام عليكم”.
يقول الراوي: فسألت أبا جعفر (الباقر) عليه السلام.. ممن أتاهم التعزية؟
فقال (ع): من الله تبارك وتعالى.
وهنا إذ خرج أميرالمؤمنين (ع) إلى الأصحاب المنتظرين في خارج بيت رسول الله ينادي فيهم معزّياً:
الموت لا والداً يُبقي ولا ولدا
هذا السبيل إلى أن لا ترى أحداً
هذا النبيّ ولم يخلد لأمته
لو خَلَّدَ اللّهُ خلقاً قبله خَلَدا
للموت فينا سهامٌ غير خاطئة
مَن فاته اليوم سهمٌ لم يفُته غداً.
أَللّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيِّنَا صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَغَيْبَةَ وَلِيِّنَا، وَكَثْرَةَ عَدُوِّنَا، وَقِلَّةَ عَدَدِنَا، وَشِدَّةَ الْفِتَنِ بِنَا، وَتَظَاهُرَ الزَّمَانِ عَلَيْنَا، فَصَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأَعِنَّا عَلَىٰ ذٰلِكَ بِفَتْحٍ مِنْكَ تُعَجِّلُهُ، وَبِضُرٍّ تَكْشِفُهُ، وَنَصْرٍ تُعِزُّهُ، وَسُلْطَانِ حَقٍّ تُظْهِرُهُ، وَرَحْمَةٍ مِنْكَ تُجَلِّلُنَاهَا، وَعَافِيَةٍ مِنْكَ تُلْبِسُنَاهَا، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.