التأسيس..
بين الاستقامة والتحريف.
تلخيصا للكلمة التي ألقاها سماحته في تأبين المرجع الشيرازي الراحل ليلة السبت (11/شوال/1435) في حسينية أهل البيت (عليهم السلام).
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَة أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)
* دينُ محمدٍ (ص) هو الأصلُ في الاعتقاد بتوحيد الله، ولا ربَّ لنا سواه. ولكنَّ القول بهذا هو بداية التأسيس للانتماء التوحيدي.. ويفتقرُ القولُ إلى الاستقامة على الفعل حسب التعاليم الشرعية.
هذا في جانب المكلفين (يعني.. أنا وأنت و…) وأما في جانب الله فسيمدنا بثلاث عطاءات:
1. على الجبهة الخارجية.. (أَلَّا تَخَافُوا)ُ.. لأنَّ الخوف من غضب الله لا يجتمع مع الخوف من غضب الطاغوت.
2. على الجبهة الداخلية.. (وَلَا تَحْزَنُوا).. لأنَّ الحزن على الضائقات والمشاكل لا يجتمع مع الأمل بالله والإيمان بوعده.
3. على مستوى الجهوزية المعنوية، البشارة بخاتمة الاستقامة (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ).
* لقد تأسَّسَتْ دعوة النبي (ص) على منظومة قِيَمٍ واضحة (َبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ).. ولأنَّ الأديان من قبل تعرَّضت للتحريف فكان واجبًا أن يكون دينُ خاتم الأنبياء يمتلك ضمانات لدرء السطو عليه وتحريفه. من هنا قدَّم النبيُّ (ص) بأمرٍ من الله عزوجل ضمانتين أسماهما (الثقلين) ولا ثالث لهما وقال للمسلمين “ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبدا”:
+ الضمانة الأولى:
القرآن الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) وقد أوجب على المسلمين التسليم لأقوال الرسول وأفعاله وتقريره قائلًا: (َمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
+ الضمانة الثانية:
العترة.. وتعني خلافة الإمام علي الممتدَّة إلى حفيده الإمام المهدي. الأمر الذي لم يكتف النبيُّ (ص) بقوله: “عليٌّ معَ القرآن” بل أضاف: “والقرآن معَ عليٍّ”. ليسدَّ الطريق على أيَّة محاولة للتحريف.
بهذا قد أتمَّ النبيُّ (ص) الحجة على أمَّته ووضع فخًّا لصيد الدخيل. ولكن تبقى هذه هي حجَّة الله الظاهرة والتي تتلقى ترحيبًا دائمًا من حجَّة الله الباطنة.. وهي العقل الحقيقيُّ المدرك للحقِّ والباطل وللحسن والقبح.. وهو المعتمد في فقه الآيات وفهم الروايات كيلا نكون ممن قال الله عنهم: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
* من أجل هذه الاستقامة ترون كلَّ إمام قد نصب إمامًا بعده، حتى وصل الأمر إلى الإمام الثاني عشر قائدًا لهذه المسيرة ودارءًا لخطر التحريف، فأطلق لغيبته مشروع: “وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا…” وصيغة الجمع هنا (رواة) تدل على قيادة الفقهاء على نحو الشورى بينهم تحقيقًا لمبدأ التعاون على البِرِّ والتقوى، وتفعيلا للحديث القائل: “أعقلُ الناسِ من جمع عقولَ الناسِ إلى عقله”. ذلك نظرًا لثقل المسؤولية في غياب القائد المعصوم وشدَّة الفتن بنا.
وعلى قاعدة “ما من عام إلا وقد خص”.. فقد أتى الحديث الآخر: “من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه… وذلك ليس كلُّ فقهاء الشيعة بل بعضهم”. ذلك لتقول أنَّ المرجعية ليست لكلِّ من ادَّعاها!!
بهذا البيان نعرف دور التعدُّدية المرجعية (المشروطة) في بناء الاستقامة ومنع التحريف.. وهذه هي نظرية المرجع الشيرازي الراحل الذي برع في تميُّزِه الموسوعي عبر منظومته الفكرية والفقهية الشمولية.. فكان المثال المؤسِّس للاستقامة الرسالية بالملامح المتداخلة التالية: (سلامة العقيدة + الفقاهة العصرية + حرارة الولاء والحماسة الشعائرية + العمل المؤسساتي + الروح الأبوية في المداراة وكسب الآخرين + الأخلاق المناقبية + الزهد العائلي والنزاهة المالية + الاعتراف بحقِّ الحرِّية للغير + النقد المؤطر في الأدب وعفَّة اللسان وعدم التشهير بالخصوم + الإعلام الفضائي الموجَّه + التنظيم الإداري شورائيا + الاهتمام بأمور الأمة الواحدة + سلمية الإصلاح السياسي).
* بهذه الأسس وفَّقَ الله عزَّوجلَّ المرجع الشيرازي الراحل منذ مطلع الخمسينيات -من القرن الميلادي الماضي- أن يؤسِّس مدرسته الإسلامية المتكاملة الأبعاد، والتي تخرَّجتْ منها إلى يومنا مئات آلاف الفقهاء والعلماء والخطباء والمدراء والوجهاء والسياسيين والاعلاميين والمؤلفين، وملايين العاملين في الحقل الولائي والشعائر الحسينية على مستوى العالم.
مثل هذا المرجع وهذه المدرسة لا يمكن للاستعمار وأذنابه المتضررين من الإستقامة ومرجعيتها الربانية أن يتفرَّجوا عليها.. لذا تربَّصوا بها المكائد لتحريف وجهة الاستقامة في مُؤيِّدِيها.. ولم يفلحوا إلَّا باستدراج بعضهم إلى صراعات جانبية والتي تورَّمت بعد رحيل السيد المؤسِّس…
من هذا الواقع نقرأ مخطط الإستهداف للمدرسة الشيرازية بسهام التحريف كي تأخذ مسارا غير مسارها الأصيل.. مثلما استهدفت الدعوة النبوية الشريفة ولاسيَّما بعد رحيل النبيِّ الأكرم (ص) فأخذت مسارا آخر إلى يومنا لدى أغلب المسلمين. نعتقد وكما لم يؤثر التحريف في شخص الإمام عليٍّ (ع) والخُلَّص من أبنائه وأصحابه كذلك لم يؤثر التحريف في شخص المرجع الرباني سماحة السيد صادق (دام ظله العالي) والخُلّص من أبنائه وأصحابه…
* إذن فأين بُؤرة الخطر والإستهداف؟!
بداية.. يجب أن نعرف بأنَّ التحريف آفة لا تختص بدين دون دين ولا بمذهب دون مذهب ولا بمرجعية دون مرجعية ولا بجماعة دون جماعة، بل ولا بأسرة دون أسرة، إلَّا أن توجيه السهام والأضواء على خطِّ المرجع الشيرازي هو بحدِّ ذاته دليل سلامة هذا الخط وأصالته ونزاهته وجامعية مبادئه في التشيع الولائي والحركي. وهذا ما جعل الدعم المشبوه يصب على فئة تكفينا نظرة سريعة على منهجها وخطابها وطريقة ظهورها كي نكتشف مباينتها مع ثوابت المرجعية الشيرازية!!
فعلى سبيل المثال: متى كان المرجعان الشيرازيان وأبناؤهما -وتلك مؤلفاتهم ومحاضراتهم- يتهمون بالاسم شخصيات شيعية قديمة وبعضهم من أصحاب الأئمة (ع) ويسخرون ويسبُّون شخصيات معاصرة وبالاسم وهم يرون وضع الأمَّة والشيعة وخطر الجدل الداخلي المُمَزِّق محدقا بالجميع؟!
ومتى كان الشيرازيان يصفان هذا وذاك في الداخل الشيعي بالكفر والزندقة ويُلقِّبان مخالفيهما في بعض الرأي بألقاب قبيحة مثل الكلب أو الخنزير أو يرمونهم بألفاظ سوقية تناسلية -وأنتم بكرامة-!!
ومتى كانا وأبناؤهما يذكرون رموز السنَّة في خطابهم الولائي بأسمائهم وبكلمات بذيئة مثل فلانة الفاحشة وفلان الملوط به وذلك في الفضائيات التي تصب الزيت على نار الحرب الطائفية!!
وهل مارس المرجعان الشيرازيان ثقافة السبِّ والشتم والتنابز بالألقاب والتهجُّم والتمسخر.. وهل قاما بالدفع نحو التورُّم باللطميات والشعائريات وإثارة الضديات بذريعة البراءة الرافضية؟!
وهل اتَّهما أحدًا من جماعتهما بخلل عقائدي أو نقص في الولاية والبراءة بمجرد أنهم يعملون بتكليفهم في محيط التقية وفق الحكمة والموعظة الحسنة والجدال باللتي هي أحسن؟!
أين ذهب طموح المرجع الشيرازي وأهدافه.. وهذه الفضائيات التي كانت فكرته وأمنيته تصرف الملايين ولا تقدم للأمة ما تحتاجه من آرائه في الإقتصاد والسياسة والإدارة والقانون والحقوق والطب وتنظيم الأمور والأسرة وقضايا الشباب وشؤون العولمة والإعلام وبناء المؤسسات وإرساء قواعد السلم واللاعنف واحترام الحريات ونقد الإنحراف بالبرهان والأخلاق التي كان مثالها اللامع؟!
فلماذا إذن كتب المرجع الراحل (1250) كتابا وشقيقه المرجع الحاضر كتب وتكلم كثيرًا في شتَّى المواضيع.. أما كانا يستطيعان أن يكتفيا ببعض كتب في الشعائر الحسينية والتاريخ والفضائل واللطميات وتختصر بها رسالة التشيع العالمية كلها؟!
نحن أيها الغيارى أمام مؤامرة (الزائد كالناقص) وهو التحريف بعينه.. وأمَّا ثقافة السبِّ والتشهير بمن ينتقد التحريف فهذه من أقبح القبائح التي لا تهدِّد مسيرة الشيرازيين فقط بل ستنتج جيلًا داعشيًا بامتياز..
لذا وجبت علينا الصرخة اليوم قبل ندامة الغد وأن لا تخدعنا بعض العمائم الجاهلة وذات المواقف المخزية التي تستغلها الفئة المنحرفة كما تستغل طيب وسماحة بعض العلماء الآخرين لخلط الأوراق وانتزاع الشرعية والمتاجرة الحصرية بالمذهب وإرهاب مخالفيهم فكريا وإسقاطهم اجتماعيا!!
* وفي الختام..
قال الله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).
هذه الآية دعوة للإستقامة على التأسيس الذي كان على صفاء التقوى وطهارة النفس وعفة اللسان.. هكذا نضمن سلامة المسيرة وننجو من الإنحراف الذي ابتلينا به تحت إسم البرائية الرافضية التي ترفع صور المرجعين الجليلين لتشوِّه سمعتهما وتخدع محبِّيهما ببعض كلماتهما وإخفاء الكلمات التي لا تخدم أهداف التحريف!!
وهذا هو الأسلوب الخطير الذي استخدمه قادة التحريف من بعد رسول الله حتى أوصلوا المسلمين اليوم إلى مذابح داعشية تحت أعلام (لا إله إلا الله.. محمد رسول الله) ونداءات (الله أكبر)!!
إنَّنا اليوم نمر بمنعطف تاريخي لهذه المدرسة الشيرازية المباركة.. فإمَّا الإستقامة على ما هو الواضح في التأسيس، وإمَّا الوقوع في فخِّ التحريف واستبدال الفكر الشيرازي العظيم وخطه الأخلاقي الطاهر إلى ثقافة سوقية هابطة في السب بالماركة اللندنية!!
والله المستعان.