تعالوا
إلى حيث العباس كان
كلمة ألقاها سماحته قبل عامين (4/شهر شعبان/1435) في ليلة ميلاد العباس قمر بني هاشم (عليه السلام).. بمأتم أبي الفضل العباس في منطقة سند.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)
السلام عليكم أيها الحضور الكرام..
وبعد:
مقدَّمة هنا وذو مقدَّمة بعدها..
فأما المقدَّمة:
أتساءل ما هو الفرق بين القرآن الصامت والقرآن الناطق؟
القرآن الصامت هو الورق المكتوب عليها سور القرآن وآياته ولكنه لا يتكلم ولا يدافع عن نفسه إذا قام بحرقه حقير مثل القس الأمريكي الصهيوني أو قام برميه تحت أقدام الخنازير ليثير مشاعر المسلمين الذين آثروا النوم العميق ولا توقظ الغيرة فيهم حتى قنابل النابالم!!
هذا القرآن هو نفسه الذي رفعه معاوية فوق الرماح في واقعة صفين ليخدع به الأغبياء من جيش الإمام علي (عليه السلام).. فصنع فيهم الإنشقاق الذي انتهى إلى خوارج نهروان والإغتيالات التكفيرية التي نالت من إمام الحق في محراب صلاته.
إنه متى ما انغلق العقل عند المسلم حتى ولو قرأ القرآن ليلًا ونهارًا سوف لن يفقه آياته من غير الإصغاء للقرآن الناطق المتحرك الواعي المدافع عن رسالات الله.. وهو الإمام المعصوم من آل بيت النبي الأكرم (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) هو الوحيد الذي يدير مشروع التطبيق للقرآن الصامت ومَن ينوبه من الفقهاء العدول.
مثل هذا الفرق بين القرآن الصامت والقرآن الناطق يوجد بين مَن يتلقّى العلم للعلم نفسه وبين مّن يتلقّاه للعمل به وصناعة الحياة الطيبة سواءًا في البُعد الفردي أو القضايا العائلية والمجتمعية والسياسية والفكرية و…
من هنا نعرف الفرق أيضًا بين مَن يأتي إلى المأتم الحسيني ليستمع بلا هدف أو مَن يذهب إلى الحوزة العلمية ليدرس أيضًا بلا هدف.. وبين الذي يبحث في المأتم والحوزة عن رسالة هادفة ويكون كالشاب الذي جاء من نائية بعيدة إلى المدينة المنوَّرة فأخذ جواب سؤاله من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم انطلق راجعًا إلى أهله!! فناداه بعض الأصحاب أما تبقى لتأخذ المزيد من علم رسول الله؟ فقال لهم أذهب للعمل بما تعلّمتُه ثم أعود للمزيد!! فعلّق الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قائلًا بما معناه: إنه قد فَقَهَ الحديث.
بهذا نكتشف الجواب على السؤال التالي:
لماذا لم ينتفع بعض الناس مما يستمعونه في مناسبات المواليد والوفيات وكأن الحالة تشبه التَّرَف وإنما صار المجيء عندهم لمجرّد التبرّك بالمعلومات مثلًا أو العادة في لقاء أصدقائه.. وفي هذه الحالة أليس جهاز الكمبيوتر والحاسوب الآلي أكثر دقة في الإختزان من هذا الإنسان؟!
إذن نحن هنا الليلة لنتعلّم ولنعمل بما تعلّمناه…
بعد هذه المقدَّمة.. ندخل إلى ذي المقدَّمة فنقول: مَن هو أبو الفضل العباس؟
سمعتم كثيرًا عن هذه الشخصية العظيمة التي تميّزت في بطولاتها الإستثنائية من بعد أخيه الإمام الحسين.. فهو الرجل الثاني في لَمَعانه العاشورائية ومواقفه البطولية ومشاعره الملائكية والإنسانية..
البعض ينتعش من القصص البطولية للعباس، سواءًا ما كان منها في حياته أو بعد استشهاده.. تسألوني: وكيف بعد استشهاده أيضًا؟!
أقول: نحن قوم نؤمن بالغيب.. والشهداء أحياء عند ربهم يُرزَقون فكيف بمثل العباس عميد شهداء الطف.. نعم إنه يصنع البطولات حتى من عالَم الغيب ولكن بإذن الله.. وهي معجزاته وكراماته (ألم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ…َ).
ولكنّي أرى في العباس بعدًا أهم.. وهو البُعد الذي أفرز المواقف الرسالية التي نقرؤها في قصصه، وبالطبع نقصد منها التي تتطابق مع الموازين العقلية والشرعية لا الخرافيات التي يؤمن بها الجهلة.
أيها الأحبّة.. حينما تنظرون إلى ظاهر البناء الشامخ الجميل الجذّاب لا تغفلوا عن مقدّماته وقواعده وعن أجزائه الخافية وقِوامه الداخلي الذي تعب عليه المهندسون وأتقنها الفنّيون والعمّال التنفيذيون.
+ إن العباس الذي نفخر به وننتعش عند سماع شجاعته وعنفوانه وغيرته ووفائه وصموده قد تعب على تكوين ذاته وتعليم نفسه وتربية كيانه حتى نال وسام كلمات التقدير من الأئمة المعصومين.. فقد قال فيه الإمام السجاد (عليه السلام): “رحم الله عمّي العبّاس، فلقد آثَرَ وأبلى، وفدى أخاه بنفسِه، حتى قُطِعَت يداه، فأبدله الله بجناحَين، يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وأن للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلةً يغبطه عليها جميع الشّهداء يوم القيامة”.
+ وكفى العباس فخرًا أن ثلاثًا من الأئمة المعصومين قبَّلوا يدَه :
أ – أبوه الإمام علي (عليه السلام) حين ولادته وبكى.
ب – أخوه الإمام الحُسين (عليه السلام) حين أخذ يدَيه المقطوعتَين بالقرب من شط الفرات.
ج – إبن أخيه الإمام زين العابدين (عليه السلام) حين أراد أن يدفنه في اليوم الثالث عشر من شهر محرَّم.
+ كان وأخوه الحسين كنفسٍ واحدة مثل نفس محمدٍ وعليّ.. وكانا لما يقرّرا خوض دماء الحثالات الأمويّة التي أتت إلى كربلاء للجريمة.. يتفقان على كلمة السرّ.. فيهجم الحُسينُ رافعًا صوته “أنا ابن مُحمّد المصطفى” ويجيبه العباس مكمِّلًا “أنا ابن عليٍّ المرتضى”.
نعم هذا العباس ما جاءت فضائله من فراغ، بل مِن زلال خَمس خصال قد شَهَدَ لها الإمام الصّادق (عليه السلام) عندما قال: “كان عمّي العبّاس بن عليّ (عليه السلام) نافِذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهَدَ مع أخيه الحُسين، وأُبلِيَ بلاءً حسناً، ومضى شهيداً”.
* أولًا – كان نافذ البصيرة
وتعني البصيرة ذلك القلب الذي يبصر الحقيقة.. وهي تُكتسَب بالعلم والإيمان والتفكّر وجهاد النفس وبالإخلاص لله ورفض الكسل والمعاصي. وما أحوجنا إلى هذه البصيرة كي نختار المكان الصحيح الذي يجب أن نقف فيه كما وقف العبّاس مع الحسين حتى رفض رسالة الأمان التي أتى بها الملعون شمر من قائده ابن زياد.. فلم يكلِّمه العباس حتى أذِنَ له الحسين بالردّ عليه.. هنا قال العباس للشّمر: ويحك.. أتُؤمِنُني وابن رسول الله لا أمان له؟!
هذا الموقف الشريف نابع من البصيرة.. إننا في الأحداث التي يمرّ بها عالمنا اليوم والمنطقة وبلدنا البحرين نحتاج إلى البصيرة كي نحلّل الأمور بعينٍ ثاقبة وننفذ إلى عمق القضايا بقلبٍ مستنير فلا نكن ممن تأخذهم كلمةٌ إلى اليمين وكلمةٌ تجرّهم إلى الشمال.
* ثانيًا – كان صلب الإيمان
ليس الإيمان كيفما كان.. بل الإيمان من نوعه الصلب هو المطلوب.
“فإنّ المؤمن أقوى من الجبل، إنّ الجبل يُستَقَلّ منه والمؤمن لا يُستَقَلّ من إيمانه شيء”. هكذا ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام). حيث الجبل ينقص منه بالأنفاق والطرقات بل وفي زماننا تُزال الجبال بقنابل الديناميت.. وأما المؤمن فلن تحرِّكه العواصف. فلا تهزكم الشبهات التي تثار ضد مذهب أهل البيت مثلًا عبر القنوات الفتنويّة وكلها مردودة بالأدلة من كتبهم.
إنّ أبا الفضل العباس كان صلب الإيمان بالله وبالرسول وبإمام زمانه الحسين بمعنى عدم تأثُّره بمعاول التشكيك وسموم الإفتراء.
* ثالثًا – كان مجاهدًا في صفّ الحُسين
وجهادُه كان متميّزًا بمعنى الكلمة.. ورد في التاريخ لما أتوا إلى يزيد في الشام العَلَم الذي كان العباس مستميتًا في الإمساك به.. فلما رآى الطاغية ثقوب السهام في كل أماكن العَلَم إلا موضع المقبض مكان قبضة العباس!! قال متعجِّبًا: هكذا يدافع الأخ عن أخيه؟!
* رابعًا – كان صابرًا في البلاء
لقد امتحنه الله ببلاء حسن.. ولم يكن من السهل ما تحمّله أبو الفضل العباس من مصائب وآلام.. قُطعَت يداه وضُرِبَ بعمود على رأسه وأُصيب بسهمٍ في عينه وبرمحٍ في صدره وضربات السيف من كل ناحية على بدنه.. وهو على الأرض ينادي أخاه الحسين.. أَدرِك أخاك.
هذا الصبر للخروج من إمتحان البلاء بنجاحٍ باهر وامتياز كبير هو معنى البلاء الحسن.
* خامسًا – كان باحثًا عن الشهادة
أجل.. إن بصيرًا مؤمنًا مجاهدًا صابرًا مثل العباس لن يرضى لنفسه أن يغادر الدنيا إلا بالشهادة.. ﻷن الموت الطبيعي قليل عليه وفشيلة للبطل.. لذا فقد قضى شهيدًا إذ كان جادًّا في البحث عن كرامة الخالدين واحتلّ القمّة فيهم.. إنه العباس فلا عجب!!
وختامًا:
إنّ رسالتنا في هذه الليلة هي بناء الذات بأيّ مقدار استطعنا.. فلا أحد منا يقول أن هذه الصفات ليس لنا طريق إليها. لأنها اختصّت بالعباس لكونه إبن المعصوم.. أخ المعصوم.. وعمّ المعصوم!!
أقول: إنّ هذا المنطق هو المسؤول عن كل الأزمات التي يعانيها المسلمون.. ومعناه أن الدين الإسلامي غير مؤهَّل لتغيير الإنسان وتطوير المجتمع، وأن تعاليمه لا تدعونا إلى واجبات التقدّم نحو الأفضل.. بينما الله عزّوجل قال آمرًا: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).