• مِن الآن:
ساهِم في تحرير عقلك…
الرسالة (13)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
إن كنتَ جادًّا في العمل على تحرير عقلك من الجهل والتصرّفات غير اللائقة بك كإنسانٍ له احترامه وكرامته وكإنسانٍ يطمح للسعادة فإنّ الواجب يفرض عليك أن تفتح قلبك لنور العلم النافع، وهو ما يقذفه الله في قلب من يريد إذا وجده قابلًا لهذه الإرادة الإلهيّة وذلك متى ما رآى استشعارك له عزّ وجل بالعبودية وأنّه يراك وإن كنتَ لا تراه وبالتالي أن تعيش الخشية الدائمة منه وصولًا إلى مستوى هذه الآية المباركة: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).
فإن لم يبلغ بك علمُك هذا المستوى فإن العلم الذي تحمله لا يتجاوز كونه معلومات فقط وأنت في هذه الحالة وجهاز الحاسوب (كمبيوتر) أو (فلاش ميموري) متساويان مع احترامي لك ولأمثالك من العلماء والمثقفين الذين ينطبق عليهم القسم الثاني من قول النبيّ الأكرم (ص): “العِلمُ عِلمانِ: عِلمٌ فِي القَلبِ فَذاكَ العِلمُ النّافِعُ ، وعِلمٌ عَلَى اللِّسانِ فَتِلكَ حُجَّةُ اللهِ عَلى عِبادِهِ”.
فالعلم الذي يحرّر عقلك إذن هو ما ينير قلبك وهو القسم الأوّل الذي يصعد بك نحو درجة الخاشعين والمتقين الذين تأسّوا بإمامهم أبي الأحرار الحسين (ع) في دعائه يوم عرفة:
“اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَخْشَاكَ كَأَنِّي أَرَاكَ ، وَأَسْعِدْنِي بِتَقْوَاكَ ، وَلا تُشْقِنِي بِمَعْصِيَتِكَ ، وَخِرْ لِي فِي قَضَائِكَ ، وَبَارِكْ لِي فِي قَدَرِكَ ، حَتَّى لا أُحِبُّ تَعْجِيلَ مَا أَخَّرْتَ ، وَلا تَأْخِيرَ مَا عَجَّلْتَ…”.
وللعلم الذي هو نور -وليس معلومات- آثار تدلّ عليه، منها ما ورد في دعاء الإمام الحسين، ومنها ما ورد في الحديث النّبوي الشريف.. وهي ثلاثة:
* التّجافي عن دار الغرور (الزّهد في الدنيا).
* الرغبة في دار الخلود (النظرة إلى الآخرة).
* الإستعداد للموت قبل نزوله (مراقبة النّفس ومحاسبتها).
فالذي يكون كذلك سوف لن يتأثّر بالعلوم الباطلة والأفكار الضالّة لو قرأتها.. تمامًا كصاحب البُنية الصحّية الذي لو دخل بكمّامات مُعقَّمة في مكان مُلوَّث سوف لن يتأثر جسمه بالأمراض. وكالأب والأم إذا اهتمّا بإطعام أولادهما الغذاء الصحّي وبتنظيم أوقات نومهم قويت مناعة أبدانهم في مواجهة الأمراض، وكذلك لو زرعا فيهم -أو الإنسان زرع في نفسه- الفكر الصحيح والدّين السليم فإنّ الله سيقذف في قلوبهم نور العلم، وهنالك سوف لن يتأثروا بأيٍّ من سموم الفكر السقيم والدّين المزيّف.
قيادة هذه العمليّة -أعني أخذ العلم من منابعه المعرفيّة الصافية إلى أن يقذف الله النور في قلب صاحبه- إنّما تكون من إختصاص العقل السليم والعلم النافع.
نستدلّ على ذلك بثلاث آيات:
1/ قال تعالى: (شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لا إلهَ إلّا هُوَ والمَلائِكَةُ واُولُوا العِلمِ قائِمًا بِالقِسطِ لا إلهَ إلّا هُوَ العَزيزُ الحَكيمُ).
توحيد الله (لا إلهَ إلّا هُوَ) هو الأساس المعرفيّ الأوّل. وذلك بشهادةٍ ثلاثيّة المصادر.. اللهُ نفسُه، وملائكتُه، وأولوا العلم. وتُكرِّر الآية (لا إلهَ إلّا هُوَ العَزيزُ الحَكيمُ) تأكيدًا على محوريّة العقيدة التوحيديّة لكلّ منطلقات الإنسان الفكريّة والسلوكيّة، بحيث لو خَلِيَ عنها لَضاع في فكره وتاه في سلوكه.
2/ قال تعالى: (ويَرَى الَّذينَ اُوتُوا العِلمَ الَّذي اُنزِلَ إلَيكَ مِن رَبِّكَ هُوَ الحَقَّ ويَهدي إلى صِراطِ العَزيزِ الحَميدِ).
وهذا هو حصيلة العلم النافع.. فصاحبه يفقه ما جاء به النبيّ الأكرم من قرآنٍ وبيانٍ وهُدى. وهو الرؤية التي يرى من خلالها (الَّذينَ اُوتُوا العِلمَ) صراط (العَزيزِ الحَميدِ) فيهتدون إليه.
3/ قال تعالى: (ولِيَعلَمَ الَّذينَ اُوتُوا العِلمَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَيُؤمِنوا بِهِ فَتُخبِتَ لَهُ قُلوبُهُم وإنَّ اللهَ لَهادِ الَّذينَ آمَنوا إلى صِراطٍ مُستَقيمٍ).
وجود ذلك العلم والعقيدة في الإنسان يثمر له الإخبات القلبي والتوازن النفسي والتواضع المتسامي، وهذا ما يفتح عليه باب الهداية على مستوى الإلتزام والتطبيق (إلى صِراطٍ مُستَقيمٍ).
فهذه المراحل الأساسية الثلاثة يقودها العقل كلّما فسح له صاحبه الطريق أمام دوره. وهو ما نعني به من تحرير العقل مما يؤدّي إلى توجيه نشاطه نحو الصّواب الديني والإبداع الشرعي والتطوير الملتزم بالأصل.
وفي المقام أيضًا ثلّة من الروايات الشريفة الداعمة لهذه المفاهيم، نختار منها ثلاثًا:
1 ـ يقول النبي الأكرم (ص): “قُسِّمَ العقلُ على ثلاثةِ أجزاء، فمَن كانت فيه كَمُلَ عقلُه، ومَن لم تكُن فيه فلا عَقلَ له: حُسن المعرفةِ بالله، وحُسن الطاعةِ له، وحُسن الصّبرِ على أمرِه”.
2 – يقول الإمام علي (ع) في صفة مَن يَحفظ الله بهم حُجَجَه وبَيِّناته: “هَجَمَ بِهِمُ العِلمُ عَلى حَقيقَةِ البَصيرَةِ ، وباشَروا روحَ اليَقينِ ، واستَلانوا مَا استَعوَرَهُ المُترَفونَ ، وأنِسوا بِمَا استَوحَشَ مِنهُ الجاهِلونَ ، وصَحِبُوا الدُّنيا بِأَبدانٍ أرواحُها مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الأَعلى . اُولئِكَ خُلَفاءُ اللهِ في أرضِهِ ، والدُّعاةُ إلى دينِهِ. آهٍ آهِ شَوقًا إلى رُؤيَتِهِم”.
3 – يقول الإمام الصادق (ع): “لَيسَ العِلمُ بِكَثرَةِ التَّعَلُّمِ ، إنَّما هُوَ نورٌ يَقَعُ في قَلبِ مَن يُريدُ اللهُ أن يَهدِيَهُ ، فَإِذا أرَدتَ العِلمَ فَاطلُب أوَّلًا في نَفسِكَ حَقيقَةَ العُبودِيَّةِ ، واطلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِهِ واستَفهِمِ اللهَ يُفهِمكَ”.
لا شك أنّ في غياب هذه المفاهيم التأصيليّة لا محالة أن يتأثّر الإنسان بالسّموم التي تبثّه وسائل الإعلام وتنتشر في مواقع التواصل الإجتماعي على نحوٍ مُخطَّط يستهدف عقول الناس والمسلمين خاصّة وبالأخصّ الشباب.. لذا عند تحليل شخصية المتوتّرين والمأزومين والمتصارعين والمتشاكسين تجدون الإشكاليّة الأولى فيهم ترتبط بضعف العقل لديهم وسطحيّة العلم وهشاشة الفكر وخللٍ في النفس…
وهذا كلّه يكفي دليلًا على ضرورة التفكير في الحلّ وفق المذكور من المفاهيم الإسلاميّة.. والتي خلاصتها:
<ألف> إكتساب نور العلم بالتعبُّد وليس اختزان معلومات.
<باء> فسح الطريق أمام دور العقل السليم، وهو ما يكون خاشعًا لله تعالى.
<جيم> الزّهد في الدنيا بمعنى الإرتقاء في الطموح المعنوي البالغ حدّ الرغبة الشديدة لبلوغ نعيم الجنة في الآخرة.
<دال> المواظبة في حفظ التوازن النفسي بالتركيز على الغايات الطيّبة في الحياة واستذكارها في طول المسيرة.
مع تحيّات:
عبدالعظيم المهتدي البحراني
4/ربيع الأول/1438
4/ديسمبر/2016