• مِن الآن:
ساهِم في تحرير عقلك…
الرسالة (12)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
متى ينحرف عالمُ الدين باتجاه التحجُّر الفكري أو الإنقلاب الحِداثويّ؟
ومتى ينحرف المثقف المسلم باتجاه التفسير الأهوائي للنصوص الدينية فيتجرّأ على الثوابت الشرعية وأخلاقيات الكلمة؟
حالتان مَرَضِيّتان نحاول هنا إلقاء الضوء عليهما ببعض الإشارات:
* الإشارة الأولى
يبدأ كلّ انحرافٍ فكريّ وعَقَدِيّ عند العلماء وعند المثقفين إذا تَصَوَّر أحدهم بأنّ الدّين شيءٌ والعقل شيءٌ وأنهما مملكتان مستقلّتان. وهو تصوُّرٌ يذكّرنا بركام الحرب بين الكنيسة وبين فلاسفة الغرب العلمانيّين!!
تلك الحرب التي لا تعنينا في الإسلام أبدًا، ﻷن الإسلام لا مشكلة لديه مع العقل والعلم والتطور الصناعي.. بل هو الداعي إليه بشدّة حتى قال القرآن الكريم: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).. نعم فقط أولو الألباب وذوو العقول وحدهم هم الذين يتذكّرون ما لأصحاب العلم من منزلة لا يساويهم فيها غيرُهم.
ولكن من أين نشأ ذلك التصوّر لدى بعض المسلمين بأنّ العقل والدّين يحقّ لهما التراشق.. وأنه ليس هناك حدود مقدّسة ولا مناطق محرَّمة على النقد والحذف؟
نرى ثلاثة أمور قد تعاونت بينها لإنتاج هذا التصوُّر الهدّام:
• الأمر الأول.. ظهور الحركة الماركسيّة في القرن التاسع عشر الميلادي بشعارها المعروف (الدين أفيون الشعوب)!
فولدت منها في أربعينيات القرن العشرين حركات شيوعية في بلاد المسلمين وما تبعها من التشكيك في الإسلام باعتباره أحد الأديان التي كما فسّرها كارل ماركس أنها كالأفيون تخدِّر الشعوب وتجعلها مستسلمة لاستغلال الرأسماليين.
فقد استطاع الشيوعيّون قرابة قرنٍ واحد أن يكسبوا بعض شباب المسلمين ويمدّوا عبرهم الجسور إلى بلداننا وفق خريطة الصراع بين (السوفييت، والصين) وبين (أمريكا) رأس النظام الإمبريالي، وهو صراع التنافس لبسط النفوذ السياسي والإقتصادي على بلدان العالم الثالث كما عبّروا عنه في قاموسهم الإستعماري.
هؤلاء الشباب بدأوا دعواتهم في الأربعينيات إلى تحرير العقل من الدّين ونقد المظاهر الدينية إذ لم يعرفوا العقل ولم يعرفوا الدّين معًا. وساهم في ذلك إنفجار الشهوات عبر إلغاء الحواجز بين الفتيان والفتيات في الجامعات -إلا البعض-.. فكانت الحرّية الجنسية لأوّل مرّة في وسطهم أمضى سلاح بيد الشيوعيين لجرّهم إلى فكرهم الإلحادي وتأسيس التنظيمات اليساريّة والجرأة في نقد الموروث الديني…
• الأمر الثاني.. بروز العولمة الغربيّة بمساوئها التي تريدها الرأسمالية لشعوب العالم في بثّ الفوضى الخلّاقة بينها من أجل الربح التجاري الأكبر.
وهذا النوع الباطل من تحرير العقل يركّز على الإنحلال الجنسي والذوبان في النفع المالي، وذلك بتثقيف المجتمع على ثقافة اللذّة وأصالة المال، ولا تمتلك الرأسمالية (الإمبريالية) فلسفةً علميّةً لمشروعها كما تمتلكها الشيوعيّة إلا ما ذهبت إليه الفلسفة الواقعية (رئاليسم).
• الأمر الثالث.. تخلُّف الفكر الديني وانتشار الجهل بحقيقة الإسلام. وهو ما أنتجه الواقع التاريخي للمسلمين تحت وطأة الحكّام الفاسدين منذ الأمويّين ثم العبّاسيّين ثم العثمانيّين ثم مَن ورثوا ذلك الإسلام المزيَّف، فإنّهم تركوا عن دين الإسلام صورة التخلّف ولم ينتجوا سوى تبعاته.
* الإشارة الثانية
لقد نهض علماء مذهب أهل البيت منذ بدء حركة الميرزا الشيرازي الكبير سنة 1891م والذي لُقِّب بالمجدِّد، ثم تلتها حركات تحرّرية أخرى أثمرت بداية الصحوة الإسلامية في الخمسينيات والستينيات ثم السبعينيات إلى أن انتصرت الثورة في إيران سنة 1979م ودخلت الشعوب مرحلة الزلزال في كلّ شيء.
إتسمت تلك النهضة قبل الثورة بالردّ العلمي على الفكر الشيوعي وبموقف الرّفض لسياسات الرأسمالية. فكتبوا في المطارحات الفكرية بحوثًا فنّدت دعوات تحرير العقل بالطريقة الماركسية بشِقّيها اللينينيّة (في السوفييت) والمائوئيّة (في الصين)، كما وقفوا بوجه التحرّر من النوع الغربي مقدار الوُسع.
منذ كان عمري 16 سنة (1976) بدأتُ أقرء للفقيه الموسوعي السيد محمد الشيرازي، وقد صدرت له عدّة كتب في تفنيد الفكر الشيوعي، وقام بإعداد طلّاب لمواجهة الشيوعية في العراق. أبرزهم شقيقه الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي وإبن شقيقته سماحة السيد هادي المدرسي مؤلّف كتاب (لا للماركسية، لا للرأسمالية، نعم للإسلام). وقرأتُ كذلك لآية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر كتبه الثلاثة (فلسفتنا) و(اقتصادنا) و(الأسس المنطقية للإستقراء). وقرأت في تلك الفترة للشهيد المطهّري وللشيخ ناصر مكارم الشيرازي وللسيد عبدالكريم هاشمي نزاد وللشيخ السُّبحاني وغيرهم. مضافًا لكتّاب من غير الشيعة الذين بذلوا مجهودًا فكريًّا جيًّدا في الردّ على الشيوعية. مثل عباس محمود العقاد في كتابه (الشيوعية والإنسانية وفي شريعة الإسلام).
* الإشارة الثالثة
لقد انتهت الشيوعيّة رسميًّا على يد (غورباتشوف) آخر رؤساء الجمهورية في الاتحاد السوفييتي الذي تفكّك بعده مباشرةً، وقد كتب في نقد نظريّاتها كتابه (البيروسترويكا) ثم أعلن بمواقفه العملية موت هذا الفكر الذي ساد بعض المجتمعات قرابة قرنٍ واحد وجرّعتها تجاربها الفاشلة.
ولكن بقيت لهذه المدرسة وتلك المدرسة تموّجاتهما الثقافية لدى بعض الشباب المنفتح بلا خلفيّات من وعي الدّين الصحيح. فصاروا يعيشون التبعيّة والتعصّب باسم التعقّل والتحرّر حتى تحوّلت إلى طابع لأكثر الجماعات الإسلامية على مدى العقود الأربعة الماضية.
نعتقد أنّ هذا التحدّي الجديد لمسيرة الصحوة الإسلامية -من بعد الألفَين- هو الأخطر من خطر الشيوعية وإفرازاتها، ومن خطر الإمبريالية وإسقاطاتها.
فعلى الإسلاميين -الشيعة والسنّة-.. سواءً منهم السياسيّين وغيرهم أن يراجعوا أنفسهم قبل أن يقضي تحجُّرهم الفكري وتطرّفهم السياسي على جهود المفكّرين المعتدلين السابقين ومَن بنوا صرح هذه الصحوة على قواعد العقل الدّيني والدّين العقلاني.
ولعل من ضرورات هذه المراجعة هو الخروج من ثقافة الإنبهار المفرط بالرموز العلمائيّة وغير العلمائية حيث تقابلها حالة الإنغلاق عن الغير وعدم محاولة فهمه ثم بناء جدار من الكراهية والعناد والضدّية، وهو ما جَلَبَ لهم واقع المنازعة من أجل المنازعة فأصبح الأغلب يعيش هوس البُغض في الآخر وهو لا يعلم عنه إلا من مصادر كيديّة لا ترقى مقام البيّنة الشرعية.
فما تمرّ به مجاميعُ الإسلاميين اليوم ليست حالة صحّية، بل هي انتكاسة كارثيّة للمكتسبات بعد أن اجتازت مراحل جيّدة في الأخلاق والآداب وتقوى القلوب.
على مَن تقع مسؤولية الإنقاذ؟
الجواب: إنّها تقع على كلّ مَن يساهم ومِن الآن في تحرير عقله.
• أُنشُر…
لتساهم في تحرير العقول وحلّ الأزمات.
مع تحيّات:
عبدالعظيم المهتدي البحراني
13/صفر/1438
14/نوفمبر/2016