• مِن الآن:
ساهِم في تحرير عقلك…
الرسالة (10)
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)
ما كان الإسلام ليحثّ على طلب العلم والقراءة، واحترام القلم والكتاب، وتعظيم العلماء والمعلِّمين، ونشر الوعي وتبليغ الكلمة الطيّبة، إلا ليبني الفرد والأسرة والمجتمع والأمة والدولة على أساس العقل المُتشرِّع والشرع المُتعقِّل، بحيث لو انفصلا فلا العقل ينفع لوحده ولا الشرع. وهما في الحقيقة لن ينفصلا إلا لدى مَن يجهل حقيقتهما ويتصوّرهما طرفين متنافسين!!
أيّها القارئ الكريم:
إن كنتَ تطمح في سعادتك خُذ هذه البصيرة لتحرير عقلك وتبيين شرعك وكلاهما حجّتان عليك من ربّك متعاونتان بينهما لهدايتك. خُذها فإنّها من بصائر الإسلام في أهدافه الأساسية لإنقاذ الفرد والأمّة والبشريّة من شرّ التخلّف وشرنقة الجهل وما يسبّب لهم من الشّلَل والعَطَل والخَطَل والخَلَل.
ولكي نكتسب هذه البصيرة يوجِّهنا الإمام الكاظم (ع) إلى الوعي بهذه القاعدة العلميّة، وهي قوله: “إنّ لِكُلِّ شيءٍ دليلًا”.
الدليل هو ما يستلزم العلمُ به العلمَ بمدلوله -كما يُعرِّفه أهل الإختصاص-.. وحسب هذا الحديث فإنّ كلّ شيء في الوجود خاضعٌ لهذه القاعدة التي يريدنا الإمام من خلالها أن نبني أنفسنا على مبدأ الوعي بالأدلة في الأشياء، فلا نقبل شيئًا بلا دليلٍ.. إما بطريقٍ مباشر أو غير مباشر.
فالمباشر مثل الدليل على وجود الله من خلال قانون العِلّية الحقّة والدَّور الباطل: (أنّ لكلّ مصنوع صانعًا لا محالة إلا الله نفسه، وإلا لزم الدَّور، والدّور باطل عقلًا).
وغير المباشر مثل أننا بعد إيماننا بالله علميًّا يُلزِمنا هذا الإيمان القبول بما يأمر به حتى لو لم تستوعبه عقولنا. مثلًا أمرُه بالصلاة والصّوم والزكاة والحجّ وما فيها من جزئيّات حُكميّة، فهنا لا حاجة إلى معرفة السبب وراء عدد الرّكعات وعدد أشواط الطواف مثلًا ما دمنا قد آمنّا بالله عبر الدّليل المباشر وبأنه عليمٌ لا يقول لغوًا وحكيمٌ لا يفعل عبثًا.
هذه القاعدة يجب أن نتّجه بها في كلّ الأمور لنصنع من أنفسنا أفرادًا ناضجين لمجتمعٍ ناضجٍ يستجيب لنداء الحقّ ويلتزم بقيم العدل ويرفض الجهل والذلّ والهوان.
وهذا على عكس المجتمع الجاهل، إذ مهما تقرأ عليه حديث القيم لن يستجيب إلا إذا استجاب لك الموتى!!
وعلى هذه القاعدة يفرِّع الإمام (ع) هنا أربعة مبادئ علميّة لنعيش بالفعل أناسًا إستدلاليّين في تعاملنا مع الأمور حولنا:
• المبدء الأول.. يقول فيه (ع):
“ودليلُ العقل التفكّر”
لابدّ من تفعيل نعمة (العقل). وتدلّ عليه حالة التفكّر في الشخص. ويعني -بالمفهوم المخالف- أنّ غياب التفكّر يدلّ على تعطيل نعمة العقل لديه.
• المبدء الثاني.. يقول فيه (ع):
“ودليلُ التفكّر الصّمت”
(التفكّر) الذي هو دليل فاعليّة العقل إنما تدلّ عليه حالة الصمت لدى الشخص.. ولكن ليس كلّ صمت، بل الصمت الملازم للتأمّلات الخلّاقة، والتي تتقدّمها إرادة البحث الممنهج وغايتها الكشف عن المزيد من الحقائق البنّاءة.
ومفهومه المخالف يكون في ثرثرة الخوض في ما لا يعنيه الشخص، فكثرة الكلام هنا تدلّ على انعدام حالة التفكّر لدى الشخص. ولذا ورد عن الإمام علي (ع) قوله: “إذا كَمُلَ العقلُ قَلَّ الكلام”.
• المبدء الثالث.. يقول فيه (ع):
“ولكلّ شيءٍ مطيّة، ومطيّة العقل التواضع”
المطيّة هي ما يمتطيه الإنسان ويركب عليه لينتقل به من مكان إلى مكان (كالحصان والناقة والسيارة مثلًا). والإنسان كلما كان مركبه طوع يده كان تنقّله بحالةٍ أيسر وأفضل. تصوّر لو كانت سيارتك معطوبة.. أو ناقتك متمرّدة.. أو حصانك غير طيِّع فإنك لا تستطيع حينئذ قضاء حوائجك بيسر وسهولة. وكذلك إذا كانت زوجتك شرسة أو العكس سوف لن تنتقل حياتك من يُسرٍ إلى يُسر.. بل تخرج من عُسرٍ لتدخل في عُسرٍ آخر!!
قد شَبَّهَ الإمام الكاظم (ع) صفة التواضع بأفضل مركوب يركبه العقل لكي يقوم بأداء دوره الطبيعي في الحياة. بمعنى أنّ الإنسان إن لم يتخذ التواضع مركبًا له فسوف لن تتيسر له أهدافه وفق خريطة العقل الحقيقي. لذلك يتخبّط المتكبّر في الأزمات دائمًا مع نفسه ومع غيره.
• المبدء الرابع.. يقول فيه (ع):
“وكفى بِكَ جهلًا أن تَركَبَ ما نُهيتَ عنه”
بهذه الكلمة الأخيرة يريدك الإمام أن تكتشف نفسك عمليًّا.. فإن كنتَ بالفعل عاقلًا لم ترتكب ما نهاك الله عنه، وإن ارتكبتَه فقد عرفتَ نفسك مَن أنت وكم هي قوّة عقلك!!
بهذا المقياس العملي لا تقيس قوّة عقلك وضعفه فقط بل وتعرف موقعك من واجباتك الدينية ومستواك في الورع والتقوى وكم هي درجة إرادتك.
نعم.. وبهذا المبدء التطبيقي ستكتشف نفسك في المبادئ الثلاثة السابقة:
هل أنت قد فعّلتَ عقلك بالتفكُّر…
هل أنت تُفكِّر بالصّمت الخلّاق…
هل أنت متواضعٌ لما يرشدك إليه عقلُك…
بعد هذا البيان يؤسّس الإمام الكاظم (ع) موضع العقل من الشرع وحدود فعّاليّاته، حيث يقول لصاحبه هشام:
“يا هشام ما بَعَثَ اللهُ أنبياءَه ورُسُلَه إلى عبادِه إلا لِيَعقِلوا عن الله”.
أن يعقل الإنسان عن الله دينَه وما أراده منه، هذا هو الهدف من مجيء الأنبياء والرسل، وليس ليعقل في ذات الله والغيبيّات وهو المستحيل. ذلك لأنّ المؤمن الحقيقي يعرف جيّدًا أنّ العقل مهما شعّ نوره فهو محدود بمحيطه المسموح له في شرع الله.
لذا جاء تعبير الإمام هنا دقيقًا جدًّا (ليعقلوا عن الله) وليس (في الله). لأنّ الإنسان إذا أجاز لنفسه التفكير في الله أجاز بعده التفكير لنفسه في كل حكمٍ يصدر عن الله. وهنا تبدأ معه فتنة القبول والرفض التي يتقلّب فيها المنحرفون.. كلٌّ بطريقته ومستواه ومجاله. فالفتاة ترفض الحجاب لأنها غير مقتنعة مثلًا. والشابّ يبرّر علاقاته المحرّمة لأنه لم يقتنع بالتحريم. والمثقف ينتقد الشعائر الحسينية مثلًا لأنه لا يستوعبها ذهنه الذي يسمّيه العقل. والمعمّم يتصوّر أنّ القرآن لم يتكلّم عن الخمس إلا في غنائم الحرب ويستنتج عدم تعميم وجوبه. والحاكم يبرّر ظلمه بأنه ظلّ الله في الأرض، والظلّ يجب بقاؤه بكلّ ثمن. والناس العاديّون يمارسون كلّ خطأ وخطيئة بذريعة أنّ الله غفور رجيم!!
وهكذا يُداس العقل والشرع معًا من منطلق الحرّية الفكريّة وقيمة العقل الحُرّ.
بينما العقل الحقيقي يعترف بحدوده الشرعيّة ولا يتعدّاها حينما يتمّ تفعيله في المناخ الشرعي.. (ليعقلوا عن الله) وليس (في الله).
وأخيرًا.. إذا تمّت الخطوات وفق هذه الخريطة الإسلامية في تحرير العقل سنصل بها إلى الكمال العقلي الذي تحدّث عنه الإمام (ع) بثلاث مدارج:
1/ علميًّا ومَعرَفيًّا: “فأحسَنُهُم إستجابةً أحسَنُهُم معرفة”.
2/ فقهيًّا وفكريًّا: “وأعلَمُهُم بأمرِ الله أحسَنُهُم عقلًا”.
3/ عمليًّا وأخرويًّا: “وأكمَلُهُم عقلًا أرفَعُهُم درجةً في الدّنيا والآخرة”.
بهذا البيان يفتح الإمام علينا نوافذ المعرفة الصحيحة لنُحلِّق بها في آفاق التكامل من خلال إيجادنا بداخلنا حالةً من التفاعل الإيجابي بين العقل والشرع، التي تنتج في سلوكنا حالة الإستجابة السريعة لمعرفة الحقّ والإنضمام مع أهله. وإلا فالإناء المقلوب على وجهه مهما هطلت عليه الأمطار ونزل عليه الغيث لن تدخله قطرةٌ واحدة!!
كلّ ما سبق بيانه قد انطوت عليه الآية المباركة التالية لو تدبّرناها بقلبٍ جادٍّ في حُبّ التقدّم نحو كلّ جديدٍ يُحيِينا إسلاميًّا وينعشنا إنسانيًّا.. قال الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
فما لنا أن لا نحرّر عقولنا من قيود الهوى ثم نسمو إلى كلّ القُلَل الرفيعة في الخير لتهنأ حياتنا الدنيا ونختمها بدخول الجنّة حقيقةً لا وهمًا؟!
• أُنشُر…
لتساهم في تحرير العقول وحلّ الأزمات.
مع تحيّات:
عبدالعظيم المهتدي البحراني
6/صفر المظفّر/1438
7/نوفمبر/2016