الحاجةُ إلى الإمام علي
عابرةُ الأزمنة
تلخيصًا لمحاضرة ألقاها سماحته في مأتم البلاد القديم (البحرين) بمناسبة ذكرى مولد الإمام علي (عليه السلام)
13/ رجب/1437
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)
(رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
بقاء رجال الله دليل سلامة مبادئهم الإلهية، فاليوم مثل قبله ومثل بعده تمرّ علينا ذكرى مولد الإمام علي التاسعة والخمسون بعد الألف وأربعمئة عامًا (1459) حيث وُلِدَ (عليه السلام) قبل السنة الهجرة النبوية ب(22) سنة وبالتالي فإن حاجتنا لإحياء هذه الذكرى المستمرة عبر القرون رغم التحدّيات نابعة من حاجتنا إلى المبادئ الإلهية التي جسّدها هذا الإمام العظيم في شخصيته المتميّزة.
هذه الحاجة بالتحديد تدفعنا إلى الحديث عن شخصية الإمام علي في كل عام بل وفي كل مناسبة تتخلّله.. فهو الشخصية التي أثنى عليها المسلمون وغير المسلمين ولا زال الإنبهار بها لا ينافسه فيه أحدٌ من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ولقد عرفنا ماذا يعني الإمام عليّ عند الله وهو وليد كعبته الوحيد والأوحد.. وكفى أن أكثر من 300 آية نزلت فيه كما يقول ابن عباس المحدِّث القرآني لدى إخواننا السنة.. وعرفنا ماذا يعني هذا الإمام بالنسبة للنبي محمد وهو ابن عمّه وحامل لوائه وناصره وصهره ووصيّه وخليفته من بعده، وتلك عشرات آلاف الأحاديث النبويّة الشريفة في الكتب الصحيحة تدلّ على ذلك…
ولكن دعونا نسمع ماذا قال الآخرون في هذه الشخصية الإلهية…
فيا تُرى ما الذي يجعل رجلًا مثل الدكتور شبلي شميّل وهو من كبار المادّيين في سنة (1917م) يقول: الإمام علي بن أبي طالب عظيم العظماء نسخة مفردة لم يَرَ لها الشرقَ ولا الغرب صورةً طبق الأصل لا قديمًا ولا حديثاً.
وما الذي يجعل جورج جرداق المسيحي اللبناني المعروف يقول في كتابه (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية): وماذا عليك يا دنيا لو حشدتِ قُواكِ فأعطيتِ في كل زمنٍ عليّاً بعقله وقلبه ولسانه وذي فقاره.
وفي تصريح للكاتب اللبناني الشهير ميخائيل نعيمه يقول: إن علي بن ابي طالب كان من عظماء البشر , أنبتته الأرض العربية التي فجّرت الدعوة الإسلامية في شخصه ينبوعًا من المواهب , ولم يكن الإمام علي مجرد بطل في ميادين الحرب فحسب , بل إنما كان بطل في صفاء البصيرة وطهارة الوجدان وسرّ البيان وعمق الإنسانية وحرارة الإيمان ومكارم الأخلاق , وإنه لَيستحيل على مؤرِّخ مهما بلغ من الفطنة أن يكون قادرًا على وصف شخصية عظيمة من معيار الإمام علي حتى لو كتب ألف صفحة , ذلك العملاق الذي لم تسمعه أُذُنٌ ولم تُبصِره عينٌ من قبل.
ومن قبل هؤلاء قال عمر بن الخطاب: عقمت النساء من أن يلدن مثل عليّ بن أبي طالب.
وقال أحمد بن حنبل: ما لأحدٍ مِن الصحابة مِن الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعليّ (رضي الله عنه).
وقال الفخر الرازي: مَن اتّخذ عليًّا إمامًا لدينِه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه.
وروى طارق بن شهاب، قال: كنتُ عند عبد الله ابن عباس فجاء أناسٌ من أبناء المهاجرين فقالوا له: يابن عباس أيّ رجلٍ كان عليّ بن أبي طالب؟ قال: مُلِئَ جوفُه حِكَمًا وعلمًا وبأسًا ونجدةً وقرابةً مِن رسول الله.
وقال كذلك: رحمة الله على أبي الحسن ، كان والله عَلَمُ الهُدى ، وكهفُ التّقى ، وطودُ النُّهى ، ومحلُّ الحِجى ، وغيثُ النَّدى ، ومُنتهى العلمِ للورى ، ونورًا أسفَرَ في الدُّجى ، وداعيًا إلى المَحَجَّةِ العُظمى ، ومستمسكًا بالعروة الوثقى ، أتقى مَن تَقَمَّص وارتدى ، وأكرَمَ مَن شَهَد النَّجوى بعد محمدٍ المصطفى ، وصاحبُ القبلتَين ، وأبو السِّبطَين ، وزوجتُه خيرُ النساء ، فما يفوقُه أحد ، لم تَرَ عيناي مثلَه ، ولم أسمع بمثلِه ، فعلى مَن أبغَضَه لعنةُ الله ولعنةُ العباد إلى يوم التناد.
أيّها الحضور الكريم:
صفات عليٍّ هذه هي منطقة الحاجة لكلّ البشر وليس للمسلمين فقط.. ذلك لمَن كان يريد العبور إلى مبادئ العدل وقيم الإنسانية ومعالي الأخلاق ومعاني الشّرف والمحبّة والخير…
فهل العالَم في غنىً عن هذه المفاهيم الراقية والنبيلة وهو يحترق اليوم في الحروب والأحقاد والظلم والكذب والدّجل الإعلامي؟!
عليٌّ هذا وهو الحاكم على البلاد الإسلامية بمساحة كل البلدان المسلمة المتقطعة اليوم.. كان بمستوى الإمبراطور الذي يحكم كل هذه البقاع وثرواتها وشعوبها وجيوشها.. عليٌّ هذا دخل عليه أعرابيٌّ قادمٌ من الصحراء، يعني لا يفهم سوى ما جاء من أجله ولا يتقن الإحترامات!!
قال لأميرالمؤمنين: أعطني من بيت مال المسلمين.
فقال له الإمام: ألم تأخذ نصيبك من العطاء؟
قال الأعرابي: نعم. ولكن لم يكفِني.
فقال له الإمام: ليس لديّ الآن سوى طعام عيالي. ولولا أن واجبي إطعامهم لأعطيتُه إياك.
ففي أثناء خروجه أطلق الأعرابي كلامًا في وجه الإمام علي (عليه السلام) ولو كان يطلقه أحدنا عند أكثر الحكّام بل أكاد أقول كلّهم لحكم عليه بالموت أو السجن المؤبَّد!!
ماذا قال هذا الرجل للإمام علي وهو قائد قوّات الجيش كلّه والبلاد كلّها؟
قال: سأقول في يوم القيامة لله.. ربّي لقد ذهبتُ إلى خليفتك لحاجةٍ فلم يلبّها لي.
هنا بكى الإمام (بأبي هو وأمّي) فنادى الأعرابي وطلب منه الإنتظار.. وقال لخادمه قمبر: آتيني بلامة حربي، وهي اللباس الحديدي الذي يلبسه المحاربون كيلا تصيبهم الرماح والسّهام وتقيهم من ضربات السيوف. وهذه اللامة كان الإمام يلبسها في كلّ حروبه منذ زمن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) مما يعني أنها ليست فقط غالية الثمن مادّيًا بل تاريخية من ناحية وهو كقائد عسكري لازال بحاجة إليها من ناحية أخرى.
فقال (عليه السلام) لقمبر أعطها الرجل ليبيعها وبثمنها يشتري حوائجه!
فنظر قمبر إلى الإمام عليّ نظرة استغراب: يا مولاي أنت تحتاجها. وقيمتها أكثر من حاجة الرجل. ما هذا السخاء؟؟!!
فقال الإمام لخادمه والدموع تجري من عينيه وقد خرج الأعرابي بتلك اللامة فرحًا: يا قمبر إنّ عليّاً لا يريد أن يستوقفه أحدٌ بين يدي الله غدًا ولو لأمرٍ ليس واجبًا عليه.
هذه قصة واحدة في شخصية عليٍّ.. ذلك المصداق الكامل في تفسير هذه الآية المباركة: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ).
هذا هو الحاكم الذي نحتاجه للأمّة والقائد الذي يعيش الآخرة في دنياه من أجل الإنسان والكرامة.. ولهذا صار عابرًا لكلّ أزمنة الدنيا، لأن الحاجة إلى رحمته وعطفه وإنسانيته وتفانيه وتواضعه وإلى عدله وحكمته حاجةٌ تهتف في كل جيل هلمّوا لتحقيق معانيكم في عمق الإنسانية قبل انتهاء أنفاسكم في قعر الجهل والجاهلية.
أجل.. فهل هناك اليوم إنسانٌ واحد ذو عقلٍ ناضجٍ ووجدان حيّ يستطيع القول بأنه لا يحتاج لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ولا ينتفع من نور شخصيته الوهّاجة ودروسه للحياة الكريمة؟!
كلّا وألف كلًا…
كيف وقد قال النبي محمد (صلى الله عليه وآله): “مَن سَرَّه أن يحيا حياتي ويموتَ مماتي ، ويسكُنَ جنّة عدنٍ غَرَسَها ربّي فليُوالِ عليًّا بعدي ، وليُوالِ وليَّه ، وليقتدِ بالأئمة مِن بعدي ، فإنهم عترتي خُلِقُوا مِن طينتي ، رُزِقوا فهمًا وعلمًا ، وويلٌ للمُكذِّبين بفضلِهم مِن أمّتي ، القاطعين فيهم صِلَتي ، لا أنالهُمُ اللهُ شفاعتي”.
وفي الختام:
ما هو المطلوب منّا أخذها الليلة من أجواء الفرح بمولد هذا الإمام العظيم بإنسانيّته وإسلاميّته؟
هناك جانبان أيّها الإخوة والأخوات:
جانب المهمّ وجانب الأهمّ. فأما المهم فهو هذه المجالس بمحاضراتها وأهازيجها وقصائدها وذكر الفضائل والتصفيق وأكل الحلاوة وإرسال رسائل نصّية بالتهاني والتبريكات. ونحن نقول أحسنتم وبارك الله فيكم.
ولكنّ الأهمّ هو الأهمّ وهو خمس مسؤوليات:
1- أن نقرأ كتبًا حول عبادة عليّ لربّه عزّوجل وبكائه في صلاته وقرآنه آناء الليل فنتعلّم منها دروسًا في الخشوع لله والتزوّد من التقوى.
2- أن نجسّد سلوكه الأخلاقي في التعامل مع الناس.. مَن كان معه ومَن كان ضدّه.
3- أن ندعو به إلى إسلام محمد كما هو دعى إليه ودافع عنه ووفى بعهده مع النبي (صلى الله عليه وآله) إلى آخر رحيله من الدنيا وهو نادى في محراب دمه: (فُزتُ وربِّ الكعبة).
4- أن ننصح الحكّام ومَن بأيديهم القوانين والقرارات في بلاد المسلمين بالأخذ من عليّ بن أبي طالب منهج العدل والحرّية والحكمة وحقوق الإنسان، إستثمارًا لآخرتهم قبل فوات الأوان.
5- أن نعرض للناس تلك الصورة الجميلة لهذا الإمام الذي تفخر به ضمائر الأحرار في كل الأزمنة.. فلا نسمح لجهلةٍ من داخلنا وباسم الولاية لعليٍّ والبراءة من أعدائه أن يدوسوا أخلاقه وفطنته وأهدافه وعظمته. فلننبّه هؤلاء على أنّ الولاية والبراءة نتعلّمهما من الإمام نفسه حيث سايس مخالفيه حتى قالوا فيه الخير فقلنا (الفضل ما شهد به الأعداء)!!
فالمسلم الشيعي إذن يقتدي بإمامه ليكون حلًّا للأزمات وليس سببًا للتأزيم.
{أللهمّ وفّقنا إلى ما فيه رضاك وما يؤدّي بنا إلى رضوانك بجاه النبي محمد وأهل بيته الذين أذهبتَ عنهم الرجس وطهّرتَهم تطهيرًا}.