العبادة والقيادة
فاطمة الزهراء.. المثال الأكمل
تلخيصاً لمحاضرة ألقاها سماحته في ليلة مولد السيدة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين (عليها السلام) 20/جمادى الثانية/1437 في حسينية أهل البيت (المحرق-البحرين).
بسم الله الرحمن الرحيم
في حياتنا هدفٌ وللهدف قادة.. ما هو هذا الهدف ومَن هم هؤلاء القادة؟
كلمتي بهذه المناسبة السعيدة الليلة تغطّي الإجابة على هذين السؤالين المصيرييّن إذ من دون معرفتنا بالإجابة سنضيع في التيه كما ضاع كثيرون الذين جهلوا الهدف من وجودهم في الدنيا فماتوا مثلما تموت البهائم ثم بئس المصير. قال الله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ).
ففي الجواب على السؤال الأول نقرأ هذا الإعلان: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فالعبادة هي الهدف من وجودنا في هذه الحياة الدنيا.
وفي الجواب على السؤال الثاني نقرأ الإعلان التالي: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ).
بهاتين الآيتين نستدل على أن العبادة إن أردنا وعيَها وعياً صحيحاً كان الواجب فيه النظر إلى قادة قد نجحوا في تطبيق العبادة تطبيقاً صحيحاً وإلا فلن نبصر العبادة التي من أجلها خلقنا الله.
وهذا هو مفهوم الإمامة وضرورة وجود الإمام القدوة في الهداية الحقيقية. لأن الله لا يمكن أن يأمرنا بالعبادة ثم لا يعلّمنا كيف نعبده ونتعبّد؟!
فالأمران متلازمان.. عبادة الله وإرسال مَن نتأسّي به في العبادة. وهم رسوله والأئمة من أوصيائه. دقّقوا معي في الآية الأولى، العبادة هدفٌ حصريٌّ للخلقة ( إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) ودقّقوا في الآية الثاني، القيادة جعلٌ إلهي لمجموعةٍ مختارة ذات مواصفات محدَّدة (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً…). وهنا نرجع إلى التاريخ لنجد أن صيغة الجمع وتلك الصفات اجتمعت حصرياً في النبي محمد والأئمة من أهل بيته فقط ولا غير وهذا باعتراف الغير.
والسؤال: أين موقع فاطمة الزهراء بين هذه المجموعة.. فاطمة بنت محمد زوجة عليّ أمّ الحسن والحسين والتسعة الأئمة من ولده؟
الجواب قاله النبي (صلى الله عليه وآله): “لمّا خَلَقَ اللهُ تعالى آدم أبا البشر ونَفَخَ فيه مِن روحه، التفت آدمُ يمنةَ العرش فإذا في النور خمسة أشباح سُجّدًا ورُكّعًا. قال آدم: يا ربّ هل خلقتَ أحدًا مِن طينٍ قبلي؟ قال: لا يا آدم. قال: فمن هؤلاء الخمسة الأشباح الذين أراهم في هيئتي وصورتي؟ قال: هؤلاء خمسة مِن ولدك، لولاهم ما خلقتُك، هؤلاء خمسة شققتُ لهم خمسةَ أسماء مِن أسمائي، لولاهم ما خلقتُ الجنة ولا النار ، ولا العرش ، ولا الكرسيّ ، ولا السماء ، ولا الأرض ، ولا الملائكة ، ولا الإنس ، ولا الجن . فأنا المحمود وهذا محمد ، وأنا العالي وهذا عليّ ، وأنا الفاطر وهذه فاطمة ، وأنا الإحسان وهذا الحسن ، وأنا المُحسن وهذا الحسين ، آليتُ بعزّتي أنه لا يأتيني أحدٌ بمثقال ذرّة مِن خردلٍ مِن بُغضِ أحدِهم إلا أدخلتُه ناري ولا أبالي. يا آدم ، هؤلاء صفوتي مِن خَلقي ، بهم أُنجيهِم وبهم أُهلكُهم ، فإذا كان لك إليّ حاجة فبهؤلاء توسّل”.
وأضاف (صلى الله عليه وآله): “نحن سفينة النجاة ، مَن تعلَّق بها نجا ، ومَن حادَ عنها هلك ، فمَن كان له إلى الله حاجة فليسأل بنا أهل البيت”.
إذن فاطمة الزهراء.. هذه المرأة الإستثنائية في العظمة رغم أنّ الأعداء قطعوا عمرها في 18 من شبابها وهي وحيدة أبيها رسول الله يشكِّل موقعها المحور في المجد كلّه والمركز في الحق كلّه والمصدر في الخير كلّه.. تعالوا وتصفّحوا كتاب حياتها سطرًا سطرًا لتجدوا هذه الحقيقة ولنفخر كم نحن سعداء بهؤلاء القادة الذين هدونا إلى معنى العبادة.. وكم يجب علينا الشكر لله على نعمة الهداية بهم.
نحن نجاهر بهذه العقيدة فرحين مستبشرين مسرورين، وإلى هذه السعادة ندعو الآخرين.. ألسنا في زمن حرّية الرأي والمعتَقَد؟!
فاطمة التي جعل الله ذرية رسوله الحبيب محمد مِن رحمها الطاهر ومِن صلب عليّ بن أبي طالب وقال له بكل وضوح: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).. هذه البنت المتميّزة بكل معنى الكلمة حتى أطلق عليها أبوها لقب (سيّدة نساء العالمين) قد علّمتنا أنّ العبادة لن تتوقف عند حدّ الصلاة والصيام والحج والدعاء.. بل المواقف التي وقفتها في حياتها منذ ولادتها إلى شهادتها كلّها عبادة. فهي وُلدت بعد عام البعثة النبويّة الشريفة بخمس سنوات وقاست في ولادتها وهي مع أبيها وأمّها والثلّة الأولى من المؤمنين بدعوة الإسلام يعانون الجوع والعطش والحرمان والقطيعة الإجتماعية في (شِعب أبي طالب) حيث طردهم المشركون إلى تلك الصحراء خارج مكّة وأذاقوهم شرّ حصار حتى رأت فاطمة الصغيرة كيف ماتت أمّها خديجة بنت خويلد وهي المرأة العظيمة التي ولدتها. ثم مات عمّ أبيها أبو طالب في نفس الحصار.. هكذا فقدت مولاتنا فاطمة في عام الحزن إثنين من عَمَدِ أبيها محمد (صلى الله عليه وآله). ثم قاست هذه الفتاة الصغيرة في الهجرة إلى المدينة (يثرب) وعاشت معاناة المهجر والغزوات الدفاعية التي اضطرّ لها أبوها رسول الله وهي تداوي جراح أبيها وتسلّيه وتمنحه الحنان لشدّة حبّها لأبيها حتى سمّاها أبوها ب(بأمّ أبيها)، وكانت كذلك تداوي جراح زوجها الإمام علي (عليه السلام) وهي حديثة العهد بالزواج، وكانت تضخّ في نساء المسلمين روح الثبات وتدعوهنّ إلى العفاف والتقوى. هذه كلها تعني في وعي فاطمة أجزاءً من العبادة. ثم تربيتها لأبنائها والسهر معهم وإعداد الطعام لهم، ثم تعليمها القرآن الكريم وأحكام الإسلام للنساء اللاتي يأتينها إلى بيتها، ثم كرمها وإنفاقها وحُسن أخلاقها، ثم موقفها الرافضيّ المقدّس في وجه الغاصبين للخلافة وبيانها للحقائق التي لازالت إلى أبد التاريخ تهتف بمظلوميتها وصوابية طريقه، ثم صبرها على آلامٍ سبّبها لها الضرب بين الباب والجدار، ثم بكاؤها (السياسي) المستمر إعلانًا لغضبها على الإنحراف عن نهج أبيها مؤسِّس هذه الأمة ودولتها الفتيّة.. كل هذه المواقف هي عبادات فاطمية.. فأين نحن إذن من معنى العبادة من خلال هذه القدوة وهذا المثال الأكمل بعد أبيها وبعلها؟!
من هنا كانت سيدتنا فاطمة الزهراء عابدة قائدة.. وكانت القدوة والأسوة في مفهوم العبادة الصحيحة التي خَلَقَنا الله لأجلها.
فلمّا نحتفل بليلة ويوم ميلادها لنتعلّم مثل هذه البصائر التي تنقذنا من التيه والضياع. لذا ومن الحق والحكمة أن نعلن يوم ميلادها يومًا عالميًا للمرأة النموذجية.
وفي الختام..
أسأل الله لي ولكم وللمسلمين وللبشريّة كافّة أن يوفّقنا لمعرفة السرّ المستودَع في هذه الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء.. ولعلّ هذا السرّ يكمن في حفيدها الإمام الحجة بن الحسن المهدي صاحب الزمان الذي ادّخره الله ليوم الخلاص النهائي.. فما أعظمها إذن هذه المرأة الإستثنائية وهي قد أعدّت للعالم والكون والأجيال بعدها إمامًا من ولدها يملؤ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما مُلئت ظلمًا وجورًا.
أللهم بمحمدٍ وآل محمد أَدخِلنا في كل خيرٍ أدخلتَهم فيه وأخرِجنا من كل سوءٍ أخرجتَهم منه إنك حميدٌ مجيد وبالمؤمنين رؤوفٌ رحيم.