●الثاني من:
شهر محرّم (1437)
◎المسائل الحسينية◎
بين جريمة التحريف
وفريضة التصحيح
☜الجزء (2 من 10)
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمُ)
ذكرنا في عدد الأمس تمهيداً حول الوسطية في وعي الدّين والعمل به وأنّ التحريف آفةُ الوسطية وانحرافٌ خطيرٌ عنها. وأسّسنا على ذلك ظاهرة التطرّف وظهور مرض العصبية والغلوّ وتفريغ الدّين عن أهدافه الكريمة.
ونواصل البحث حول (التحريف) و(التصحيح) من خلال محورين وفيهما عدّة عناوين وتفريعات هامّة متجهين نحو بلورة الحق في الوعي وفي الموقف معاً.. فنقول:
* المحور الأول..
عن جريمة التحريف، وفيه ثلاث عناوين
العنوان (1):
(التحريف..
كما حذّر منه القرآن والسنة)
لقد رَصَدَ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة الممتدّة عبر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) آفة التحريف وأسبابها وحذّرا من ممارسته وعواقبه، لما فيه من تفريغ للرسالات السماوية عن محتواها وتحويلٍ لمقاصدها عن وجهتها التي أرادها الله لعباده. وهو -أي التحريف- في المآل نوعٌ من الكذب على الله ورسوله، وليس خافياً خطره المُدمِّر على الدين والأخلاق والمجتمع ومسيرة الدولة والأمّة والبشرية..
يذكر القرآن الكريم بأن اليهود كانوا أكثر احترافياً في تحريف الأديان وبراعةً في التآمر على النبيّين وقتلهم حيث قال: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ).. (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
وفي آية أخرى يُعَبِّرُ القرآن عن جريمة التحريف في صورة التبعيض والأخذ من الدين بالهوى وترك ما يخالفها.. وقال محذِّراً ومتوعِّداً: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
ولكي لا تتسلّل آفة التحريف إلى الأديان وتنقلب الموازين باسم الدّين بَعَثَ الله الأنبياء والرُّسُل تلو بعضهم البعض، ولم يترك زماناً بعدهم من غير الأوصياء وورثتهم العلماء الربّانيين ليبيّنوا الدّين الحق ويواجهوا التحريف بنشر الصحيح وقيادة التصحيح وهم يجاهدون الإنحراف بالمقاومة العلمية والأخلاقية وبالحكمة وبالجهاد عبر سلاح المظلومية والتزام الإنسانية..
لذلك اهتمّ القرآن الكريم بمنصب الإمامة حتى أمر الله رسوله الأكرم (ص) بتنصيب أئمةٍ من ذرّيته الطاهرة هادين مهديّين…
ولذلك ورد تحذيره (ص) وتحذير الأئمة (ع) من تفسير القرآن بالرأي والإفتاء بغير علم لأنهما طريقان إلى تحريف الدّين، فقالوا مثلاً:
* “مَن فَسَّرَ القرآنَ برأيه فليتبوّء مَقعدَه من النار”.
*”مَن أفتى بغير علمِ لَعَنَته ملائكةُ السماوات والأرض”.
ونقرأ في هذا السّياق حديثاً يهزّ ضمير كل مَن فيه أمل الهداية والخوف من عقاب الله تعالى.. يقول الإمام الصادق (عليه السلام):
“كَانَ رَجُلٌ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ طَلَبَ الدُّنْيَا مِنْ حَلَالٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا وَطَلَبَهَا مِنْ حَرَامٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهُ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ تُكْثِرُ بِهِ دُنْيَاكَ وَتُكْثِرُ بِهِ تَبَعَك؟َ فَقَال:َ بَلَى. قَال:َ تَبْتَدِعُ دِيناً وَتَدْعُو النَّاسَ إِلَيْه.ِ فَفَعَل.َ فَاسْتَجَابَ لَهُ النَّاسُ وَأَطَاعُوهُ فَأَصَابَ مِنَ الدُّنْيَا. ثُمَّ إِنَّهُ فَكَّرَ فَقَالَ مَا صَنَعْتُ ابْتَدَعْتُ دِيناً وَدَعَوْتُ النَّاسَ إِلَيْهِ مَا أَرَى لِي مِنْ تَوْبَةٍ إِلَّا أَنْ آتِيَ مَنْ دَعَوْتُهُ إِلَيْهِ فَأَرُدَّهُ عَنْه.ُ فَجَعَلَ يَأْتِي أَصْحَابَهُ الَّذِينَ أَجَابُوهُ فَيَقُولُ إِنَّ الَّذِي دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ بَاطِلٌ وَإِنَّمَا ابْتَدَعْتُهُ. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ كَذَبْتَ هُوَ الْحَقُّ وَلَكِنَّكَ شَكَكْتَ فِي دِينِكَ فَرَجَعْتَ عَنْه!!ُ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَمَدَ إِلَى سِلْسِلَةٍ فَوَتَدَ لَهَا وَتَداً ثُمَّ جَعَلَهَا فِي عُنُقِهِ وَقَالَ لَا أَحُلُّهَا حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ عَلَيَّ. فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قُلْ لِفُلَانٍ وَعِزَّتِي لَوْ دَعَوْتَنِي حَتَّى تَنْقَطِعَ أَوْصَالُكَ مَا اسْتَجَبْتُ لَكَ حَتَّى تَرُدَّ مَنْ مَاتَ عَلَى مَا دَعَوْتَهُ إِلَيْهِ فَيَرْجِعَ عَنْهُ”.
حقاً.. ولو لم يكن لدينا غير هذا الحديث الشريف لكفى أن يحتاط المسلم الحريص على دينه وآخرته.. فلا يسمح لنفسه قبول فكرةٍ أو ممارستها أو الدعوة إليها قبل أن يستند فيها إلى دليل شرعي، فإن كان عالماً فدليله القرآن والسنة الصحيحة.. وإن كان متعلِّماً فدليله فتوى المرجع الذي اكتملت فيه شرائط التقليد الشرعية. ومَن لم يندرج فكرُه وفعلُه تحت هذين العنوانين (عالم فقيه) أو (متعلّم تابع له بالتقليد) يكون ساقطاً في وحل التحريف سواءاً في كلّ المسائل الدينية أو فيما يتعلّق بمسائل الشعائر الحسينية. هذا المعيار هو صمّام أمان لصون الأصيل (وهو الحق) وصيد الدخيل (وهو الباطل)!!
هذا ما قامت عليه شريعة النبي وأهل بيته بأدلّته (القولية والفعلية والتقريرية) حيث تصبّ إما مباشرة أو غير مباشرة في تثبيت الأصيل (الحق) وتفنيد الدخيل (الباطل) وعليهما تتحرّك فلسفة الحياة وصراع الإرادات ومآلاتها الأخروية من (ثوابٍ وجنّة) ومن (عقابٍ ونار).