الجديد…
من رسائل الغدير
تلخيصاً مدمجاً لمحاضرتين ألقاهما سماحته في حسينية أهل البيت (المحرق) ليلة الجمعة، ومأتم الرسول الأعظم (السماهيج) ليلة السبت.. بمملكة البحرين في ذكرى عيد الغدير (1436).
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين﴾
يظنّ البعض أن هذه الآية التي نزلت في يوم الغدير 18/ذي الحجة/ السنة العاشرة من الهجرة النبوية الشريفة تفيد بأنّ النبي الأكرم (ص) كان خائفاً من تبليغ المسلمين ولاية الإمام علي (ع) وأنّ الله قد عنّفه على تردّده!!
نقول: حاشا لرسول الله الخوف ممن يخالفه وهو الذي لا يخاف إلا الله وهو أشجع الشجعان الذي كان يحتمي به قائد ألوِيَتِه الإمام علي كلّما حَمِيَ وطيس المواجهات في الغزوات. وهيهات أن تدلّ الآية على تعنيف الله له وهو الذي اصطفاه جامعاً لكل خصال القيادة الناجحة في أصعب المواقف وفي مجتمع جاهلي وَعِر.
إنما الآية تكشف عن وجود خطّة إنقلابية لمصادرة القيادة من بعده.. وهنا يخبره الله بالمضيّ في تنصيب الخليفة الربّاني (بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّك) بحيث لو تركها -على افتراض المحال- لكانت الرسالة الإسلامية مبتورة وكأن الرسول لم يقدّم شيئاً منذ بُعِثَ بالنبوة (وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه) لأنها ستتلاشى مع عدم وجود الخليفة المنصوب من (الرَّبّ). فالآية ناظرة إلى أهمية القيادة التالية ومحورية الولاية وتعيين الخليفة الشرعية.
كل ذلك لنعرفه نحن وإلا فالنبي عارف بكلّ التفاصيل. والقاعدة الثابتة لدى المفسِّرين في الآيات التي تخاطب النبي مباشرةً بالجانب السلبي أن تُحمَل على باب: (إياك أعني واسمعي يا جارة).
والآية تفيد أيضاً بأن تبليغ الولاية لعليّ بن أبي طالب فيه صعوبات، وعلى شيعته أن يتحمّلوها كما تحمّلها الرسول (ص) وأنّ الله يعصمهم كما عصم رسوله من الناس (المخالفين للولاية).
وهذا ما أثبته الموالون للإمام علي إذ وقفوا مع وصية الرسول (ص) منذ ألفٍ وأربعمئة وستّ وعشرين عاماً من السنة العاشرة للهجرة ونحن اليوم في 1436 وقد بذل المسلمون من شيعة أهل بيت النبي خلال هذه القرون كل غالٍ ونفيس من أموالهم وأرواحهم في هذا الصراط المستقيم والله قد عصمهم وهم في زيادة وانتشار. وهم الذين خاطبهم الله في يوم الغدير: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
ولهذا نعتقد أن الغدير هو يوم العيد الأكبر لأنه ارتبط بالخلافة الحقّة لأهل بيت النبوّة.. والخلافة أساس الدين، لأن الخليفة العالم العادل الحكيم المتقي يقود العباد والبلاد إلى نور العلم وجمال العدل وعقلانية الحكمة وحلاوة التقوى، وفاقد ذلك لا يقود إلا نحو الجهل والظلم والتخلّف والفسق؟!
لهذا لا يُقاس عيد الغدير بعيد الفطر الذي ارتبط بجزئية انتهاء شهر الصيام، لأن الصوم مسألة فرعية، ولا يقاس بعيد الأضحى الذي ارتبط بجزئية انتهاء مناسك الحج، لأن الحج مسألة فرعية. أما عيد الغدير فيعني السرور بالخليفة الشرعية للرسول الأعظم.. الخليفة الذي لو كان والأئمة من ولده يحكمون المسلمين لما انقلبوا على عقبيهم.. وقد تنبّأ القرآن بهذا الإنقلاب عندما قال: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ).
بهذه البصيرة نعرف كم قد خسر المسلمون في طول التاريخ ولم يخسر الإمام علي وأولاده الأئمة لأنهم جاؤوا لخير الناس والناس اختاروا شرّهم. ولو كان بَطلُ الغدير يحكم المسلمين لكانت العدالة تنتصر في حياتهم والخير والمحبّة والأخلاق والإنسانية والأمن والرفاه والراحة الحقيقية تنتعش وتَعُمّ البشرية.. لأن الغدير هذه أهدافه التي أوردها الرسول (ص) في خطبته وإلا هل يُعقَل أنه (ص) وهو أعقل العقلاء يوقف 120 ألف إنسان في تلك الصحراء الحارقة ليقول لهم: إني أحبّ عليّاً فأنتم أحبّوه!!
أهذا مستوى شخصية الرسول الذي لا ينطق عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ)؟!
فلا شك إذن أنّ القضية أكبر من جزئية الدعوة لحبّ عليّ.. وهي التي أيضاً لم يلتزم بها الذين حوّروا معنى (الوليّ) من الولاية إلى (الصديق والمحبة)!!
غريب أمر الذين يبغضون صهر النبي وابن عمّه.. ترى يقبلون للملوك والرؤساء والمدراء أن يعيّنوا لأنفسهم نوّاباً إلا النبيّ محمد لا يحقّ له.. ويعني كلامهم يا ناس إذا الأب (ربّ الأسرة) يريد السفر وعنده ولد كبير ناضج محبوب أو صهرٌ بصفات صالحة لا يوصيه برعاية شؤون أسرته في غيابه بل يقول للجيران تصرّفوا ما تشاؤون في شؤون أسرتي!!
واقعة الغدير الخالدة.. قد فضحت هذه العقلية التي صنعها الإنقلابيّون للسّطو على دين محمد وآل بيت محمد وأمّة محمد.. وعلى البلاد والثروات التي تعود لمحمد.. ولكنه (ص) كان القائد السياسي المحنَّك الذي عرّف المسلمين مكانة وصيّه منذ بداية دعوته.. وهو يحدّثهم عن فضائله باستمرار حتى قال: “يا عليّ مثلك في هذه الأمة كمثل الكعبة تُطاف ولا تطوف” وفي رواية “تُؤتى ولا تأتي”.
ففي تلك الظهيرة الملتهبة بحرارة الشمس من يوم الغدير وقف هذا النبي الذكيّ (ص) يسأل الحضور: “أيُّهَا النّاسُ، مَنْ أوْلى بِكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ؟ قالوا: اللهُ وَرَسوُلُه”ُ. وفور أخذ الإعتراف هذا منهم رفع بعضد الإمام علي ونادى: “ألا فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهذا عَلِيٌّ مَوْلاهُ، اللّهُمَّ والِ مَنْ والاهُ وَعادِ مَنْ عاداهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَه”ُ.
ومن فصول الخطة الذكيّة للرسول إختياره المكان الإستراتيجي للخطبة (منطقة الغدير) مفترق طرق الحجّاج وقوافلهم.. واختياره لموسم الحجّ.. وإعلانه أنه الحج الأخير له إذ سيودّع المسلمين بعده راحلاً إلى الله تعالى. وهذا ما جعل للخطبة أكبر عدد من الرواة وليكون إنكارهم لها أكبر دليل على المؤامرة والإنحراف.
العلامة الأميني (رحمه الله) صرف 40 سنة من عمره في تأليف موسوعة (الغدير) جمع فيها كل ما يتعلّق بهذه الواقعة من مصادر أهل السنّة القديمة والجديدة، ولما طبع الكتاب جاء به بعض النواصب عند حاكم بغداد آنذاك وطلبوا منه إصدار أمرٍ بجمع الكتاب من الأسواق وإحراقه وإعدام مؤلفه أو إعتقاله، فطلب الحاكم وقتاً لينظر في الكتاب، ولما أتوه بعد أيام قال لهم أني وجدت مصادر الكتاب كلها من كتبكم، فإذا تريدون حرق كتاب الغدير إحرقوا كتبكم أولاً!!
وينقل أيضاً بأن هذا الشيخ (أعلى الله درجاته) كان في يوم عاشوراء واقفاً في صحن حرم أميرالمؤمنين (ع) في النجف الأشرف مع عدد من علماء المخالفين جاؤا ليستطلعوا ممارسات الشيعة، وإذا بدخول موكب عزاء اللطم، فسئلوه: يا شيخ أهذا من الإسلام؟ فقال الشيخ الأميني: نعم من الإسلام. ثم دخل موكب التطبير!! فقالوا مستنكرين: وهذا من الإسلام يا شيخ؟! فقال الشيخ: إي والله.. وهذا من الإسلام أيضاً. قالوا: كيف؟ قال: لولا هذه الشعائر الحسينية لأنكرتم وجود عاشوراء كما تنكرون اليوم الغدير. ونحن كان علينا إيجاد شعائر خاصة للغدير كيلا تنكروه!!
أيها المؤمنون والمؤمنات:
لقد قال الرسول الأعظم (ص) في خطبة الغدير:
“مَعاشِرَ النّاسِ، إنّي أَدَعُها إمامَةً وَوِراثَةً في عَقِبي إلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَقَدْ بَلَّغْتُ ما أُمِرْتُ بِتَبْليغِهِ حُجَّةً عَلى كُلِّ حاضِر وَغائِب، وَعَلى كُلِّ أَحَد مِمَّنْ شَهِدَ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ، وُلِدَ أَوْ لَمْ يُولَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الْحاضِرُ الْغائِبَ وَالْوالِدُ الْوَلَدَ إلى يَوْمِ الْقِيامَةِ”.
هنيئاً لكم عقيدة الولاء وحسّ الإنتماء بهذا الرسول عبر أهل بيته، إن هذا الثبات في الوفاء لوصية الرسول هو الحق الذي أورثه لكم آباؤكم وأجدادكم فأورثوه لأبناءكم تفلحوا..
وتسألوني كيف؟
أقول: إن الشعائر نوعان.. نوع للحزن ولم تقصّروا فيه مع الإمام الحسين (ع). ونوع للفرح.. وهو ما تقومون به في هذه المناسبة الغديرية وأمثالها.
ولكنّ المهم في إحياء الشعائر الولائية الجمع بين فهمها بالتناسق مع أهدافها وبين الأخلاق الحسنة في التعامل مع المخالفين ضمن آداب التعايش وقيم السلمية، وهو ما برع فيه الإمام علي والأئمة من ولده تأسّياً برسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم).. هذا هو ميدانكم الأول في جهاد النفس الأمّارة بالتطرّف والغلوّ والسبّ والإستعداء.
هذه بعض قبسات من رسائل (الغدير) وهي لا تحصى.. واجبنا أن نفقهها ونحن عاملون وأكفّنا مرفوعة بالدعاء: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)(رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ).
والسلام عليكم رحمة الله وبركاته.