بيان الحج…
بينات من القرآن، ونصائح…

بِسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

* وأما بعد:

فهنا محوران.. ولا يثمر الثاني من غير الأول.. فما هما هذان المحوران؟

* المحور الأول..

(ركن الإمامة في المخزون المنسكي للحج)

نلفت عناية الحجاج الأعزاء في كل مكان وهم يشدون رحالهم إلى حج بيت الله الحرام.. أن تلبيتهم لأذان أمير الحج الأول إبراهيم الخليل -على نبينا وعليه السلام- (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلَى كُلِّ ضامِر يَأتينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميق).. هي تلبية لأذان أمير الحج الحاضر.

ذلك لأن الأذان يتكرر في كل عام بتكرار الحج.. كما يتكرر أذان الصلاة يوميا بتكرار الصلاة. ومؤذن الحج في كل عام من بعد الإسلام هو أحفاد النبي إبراهيم، بدءا من النبي محمد ثم الأئمة من آله إلى حفيده مولانا الإمام الحجة بن الحسن المهدي.. وهو أمير الحج الحاضر وإلا كان ضمير (الكاف) في (يَأْتُوكَ) ضميرا لإبرهيم (ع) وقد انتهى حضوره الميداني.. وهيهات أن تتهافت آيات القرآن الكريم في بلاغتها ورسائلها. (وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

ويفضي التأمل في مغزى الإتيان المذكور في الآية إلى أنه يكون إلى النبي والإمام وليس إلى الكعبة وأعمال الحج.. ﻷنها والكعبة شعائر الله والشعائر مظاهر وللمظاهر بواطن.. فما تلك البواطن لشعائر الحج التي قال عنها القرآن (ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)؟!

هذا ما يحتاج الإيمان به إلى (تَقْوَى الْقُلُوبِ) لا تقوى المظاهر التي يخادع بها البعض غيره!!

والآيات هنا في سورة (الحج) تؤكد على وجود الباطن الهادف لظاهر الشعائر المقدسة وأن تعظيم الظاهر طريق لاكتساب بركات الباطن -تماما مثل الشعائر الحسينية-.. حيث تختم الآيات قولها (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).

فلابد للحجاج أن يتخذوا شعائر الحج كرموز يقوموا بتفكيكها عبر التفكر والمجهود العملي حتى يبلغوا الحقائق المخزونة في أعماقها.. وحقيقة الإمامة واتباع الإمام الحقيقي تأتي في طليعة تلك الحقائق التي لن يبلغها الحاج من دونها!!

أليس الحج الإلهي أسسته الإمامة الإبراهيمية على قواعد التوحيد؟!
إذن حج بلا هذه الإمامة لا يكون سوى حج الجاهلية الذي وصفها الله عزوجل: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ۚ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

فمعرفة الإمام وهو أمير الحجاج والتأدب بآداب الحج في محضره (صلوات الله عليه) هو الأساس الأول في الحج الإسلامي الصحيح.. وقد أكده الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله: “من أتى الكعبة فعرف من حقنا وحرمتنا ما عرف من حقها وحرمتها لم يخرج من مكة إلا وقد غفر له، غفر الله له ذنوبه وكفاه الله ما همه من أمر الدنيا والآخرة”. وجاء هذا المعنى بكلمة أوضح في حديث آخر “تمام الحج في لقاء الإمام”.. واللقاء هنا بعد ارتقاء الحاج إلى حج تام المظهر والمخبر تارة يكون عضويا بالعين المجردة، وهو ما حصل لكثيرين في تشرفهم بالإمام المعصوم.. وتارة يكون برضاه عنهم وسروره بحجهم ودعائه لهم واعتزازه بهم عن ظهر الغيب.

هكذا نكون.. لما يكون حجنا مقاربا لحج إبراهيم الخليل الذي تجسد في حج الطاهرين من ذريته سيدنا محمد وأهل بيته.. إذ تتجلى أمامنا بصائر هذه الآية المباركة: (لِيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم…ِ) وأكبر المنافع هو وعينا للإمامة ولقاؤنا بالإمام.. كوعينا للرسول والرسالة.. وكوعينا لله (المعبود) والعبادة.

عندها سيكون المسلم الواعي أقرب إلى هذه الآية العظيمة: (ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّه وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).

فكيف نحج حجا يوصلنا إلى ملكة التقوى في اجتناب الرجس والأوثان وقول الزور.. وقد كثر ذلك في زماننا وإليه تعود المآسي كلها منذ تم تغييب الإمام وإسقاط الإمامة عن حياة الأمة وقضاياها؟!

هذا ما نجيب عليه الآن..

* المحور الثاني..
(إستحضار الهدف من الحج في طول الطريق)

فالحجاج الكرام وهم يتنقلون من منسك إلى منسك ومن مكان إلى مكان يجدر بهم التفكر في الهدف لكل عمل ما أعمال الحج.. بدءا من الإحرام عند الميقات ثم دخول مكة والذهاب إلى المسجد الحرام والطواف حول الكعبة والصلاة عند مقام إبراهيم ثم نحو السعي بين الصفا والمروة ثم الخروج إلى صحراء عرفات ثم المبيت في المشعر الحرام ثم النزوح إلى أرض منى ورمي الجمرات الثلاث وذبح الأضحية والحلق أو التقصير ثم الرجوع إلى مكة للطواف والصلاة…

وخاصة التفكر في الحكمة من محرمات الإحرام الثمانية والعشرين.

كلها محطات للتفكر ومراجعة الذات ومحاسبة النفس وتخليتها عن الأدران المانعة لتقوى القلوب.. فإذا كان الحاج هكذا في حجه فهو يكون قد اتخذ قراره في التغيير الشامل نحو الأفضل وعلى كافة الأصعدة ذات الصلة بأموره الفردية والعائلية والمجتمعية والتجارية والسياسية والإنتاجية وغيرها.. ترى ما أروع هذه الدروس (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَاب).. وما أعظم هذه المدرسة (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ… فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)..

فلا تكن بعدئذ من (مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَق) وأنت يمكنك أن تكون من (مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب) وتذكرك تتمة هذه الآية بالتقوى والآخرة (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) وهما أساس كل خير في الحياة ولا خير فيها إذا زال التقوى وغابت الآخرة عن قائمة الإهتمامات.

نعم.. وأنت تتنقل في تلك المحطات الشريفة تذكر قيمة الأمن الفكري والأمن النفسي والأمن المالي والأمن السياسي والأمن المعيشي.. وأنه كم خسرت أمتك (اليوم فقط) من دينها وأخلاقها وسمعتها وسعادتها وثرواتها بسبب غياب الأمن وانتشار العنف والعصبيات…

أليس الله تعالى قال: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

تفكر كيف تحمل من روح الأمن الإبراهيمي إلى مجتمعك..

تعلم في دورتك التعليمية المركزة هناك كيف تنقل الأخلاق الأمنية إلى داخل حياتك حيث لا يجوز لك قتل حشرة صغيرة تكلم مع نفسك ما السبب الذي جعل البعض يرى ذبح الإنسان وتفجير الناس تحت راية (لا إله إلا الله. محمد رسول الله) مفتاحا لدخول الجنة؟؟!!

حاول وأنت راجع من الحج إلى بلدك أن تجلب بدل الهدايا المادية أو إلى جانبها تجلب هدايا من سنخ الأهداف التي ذكرتها الآيات القرآنية وروايات العترة النبوية الطاهرة..

بذلك لتعم بين المسلمين ثقافة المحبة والرفق والرحمة وتنعم بثمارها الأمم الأخرى فتهتدي إلى الإسلام الحقيقي أو تقف له بالإجلال والإكبار.

* وفي الختام..

أيها الحاج.. أيتها الحاجة:

تلك آيات الله القرآنية.. تطالبك بالتدبر فيها لتصنع في حجك ومن عبادتك الفرصة الثمينة لقفزة روحية عالية وتغيير جذري في حياتك.. فتعود إلى أهلك وأنت إنسان جديد بإنسانيتك المحمدية. فلا يلعب بك الشيطان كما لعب بكثيرين ولازال حيث سلبهم فهم الغاية من الحج فباتوا من الحجاج الذين وصفهم الإمام زين العابدين (ع) في قوله: “ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج”!!

لا تنسوا ما سبق من مفاهيم الحج في الإمامة وهي روح الحج -كما فصلناها في للمحور الأول-. ومن مفاهيم الحج في التربية الذاتية وهي الهدف التطبيقي من الحج -كما بيناه في المحور الثاني-..

وكذلك لا تنسوا الدعاء لإنقاذ المسلمين (من أنفسهم!!) في كل مكان..

كما لا تنسوا الدعاء لتعجيل فرج مولانا صاحب الزمان (أرواحنا له الفداء)..

وكذلك الدعاء للمرضى والسجناء والمظلومين والفقراء.

فإنكم بذلك كله تضعون أنفسكم في مسار القيام بالحج الذي يريده الله منكم حيث قال: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسٌِ).

أسأل الله تعالى لكل حاج وحاجة أن يتحقق له ما ورد عن الإمام زين العابدين (ع): “الحاج مغفور له وموجوب له الجنة ومستأنف له العمل ومحفوظ في أهله وماله”.

آمين.. يا رب العالمين بجاه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

داعيكم:
عبدالعظيم المهتدي البحراني
19/ذي القعدة/1435
2014/9/14

البحرين – محافظة المحرق

للاعلى