*رسالة المولد الرضوي الشريف*
تلخيصا لمحاضرة سماحته التي ألقاها بمناسبة مولد الإمام الرضا (ع) في قرية (دمستان) تلبية لدعوة اللجنة الثقافية بمسجد الإمام الرضا (ع) هناك.
وذلك في مساء يوم الأحد (12/ذي القعدة/1435) (2014/9/7).
ملاحظة: تم تطعيم هذا التلخيص ببعض آيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين.. والصلاة على الرسول محمد وأهل بيته الطيبين.. واللعنة على أعدائهم أجمعين.. وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
القصة التالية هي المدخل الذي أنتقل منه عبورا إلى رسالة هذه المناسبة المباركة..
قصة بالأمس أرسلها لي أحد العلماء الأجلاء وقد سمعها من سماحة المرجع السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله) نقلا عن شخص كان حاضرا فيها وتابع فصولها حسب ما يلي:
رجلان كانا يتجادلان في حرم الإمام الرضا (ع) على جنازة إمرأة كانت في التابوت أمامهما.. أحدهما فقير والآخر غني.. كل واحد منهما يدعي أنها جنازة أمه!!
كان الفقير القروي يقول: والله يا ناس هذه الميتة هي أمي، والدليل أن لباسها الذي كانت تلبسه وحجابها أنا بنفسي اشتريته لها، وقد جئنا قبل أيام من قريتنا للزيارة وماتت.
فرد عليه الغني: بل هي أمي، وقولك عن لباسها وحجابها ليس بحجة، فهذا مما يستطيع شراءه من السوق كل شخص، ثم الدليل على أنها أمي أن في فخذها علامة.. فشرح للنساء تلك العلامة وطلب منهن أن يكشفن عن فخذها بعيدا. وكانت المرأة ماتت في حادث سحق وجهها فلم تعرف به. وجاءت المفاجئة لما كشفن النساء عن فخذها فكان كما قال الرجل الغني!! وهكذا غلب على الجنازة وأخذها ودفع ما يعادل 10 ألف دولار تقريبا ودفن أمه داخل الحرم الرضوي الشريف.
بعد يوم من الدفن، وبينما كان الرجل في سكنه سمع الباب يُطرَقُ، فلما فتحه وإذا بأمُه واقفة أمامه!!
فذُهِلَ الرجل، سألها: أين كنتِ يا أماه، وأنا قد دفنت امرأة في الحرم باعتقادي أنها أنت!!
قالت الأم إني ذهبت مع حملة نساء لزيارة المقامات خارج مدينة مشهد وقلت لفلانة أن تخبرك فيبدو أنها نسيت.
هنا خرج الرجل يسأل عن مكان ذاك القروي الفقير حتى حصل عليه في إحدى الأماكن السكنية المتواضعة مستأجرا غرفة، فقام يعتذر منه ويطلب المسامحة جراء ما حصل بينهما.. ثم أخذ بيده يدله موضع قبر أمه!!
ولما وصلا إلى القبر جلس الغني عند حافته يقرأ الفاتحة، ولكن القروي وقف مذهولا وعيناه تغرورقان بالدموع.. فقال له الرجل: ماذا بك؟!
أجابه الفقير: عندما كنت في القرية كانت أمي
تلح عليّ: أريدك أن تدفنني بجوار الإمام الرضا (عليه السلام)، فكنت أقول لها: يا أماه من أين لي المال، وأنا لا أملك شيئا. ولما يئست من تنفيذي لرغبتها.. قالت لي قبل أيام: إذا ًخذني لنزور الإمام (عليه السلام). فقمت بتجميع مبلغ من المال اليسير يكفينا لزيارة مشهد المقدسة. وفي إحدى زياراتي مع أمي للحرم المطهر، ساقتني الأقدار أن أنزل معها إلى هذا المكان بالضبط، فوقفت هنا وأخذت تبكي بكل حرقة وتتكلم مع الإمام بلغة العجائز: أيها الإمام الرؤوف.. سيدي ومولاي لا أريد أن أرجع إلى بيتي وقريتي، أريد أن أموت بجوارك، وأن أدفن ههنا قريبة منك. وبينما تتكلم هكذا كنت أنا أخاطب نفسي، ومن أين لي المال يا أماه لأدفنك في هذا المكان المقدس؟!
وهنا بكى الرجل الغني بشدة وعلم أن كل الذي جرى كان بتدبير إلهي وتحت إشراف الإمام الرضا (عليه السلام) وأنه اختاره ليكون بماله وسيطا لدفن هذه المرأة المؤمنة في هذا المكان!!
أيها الموالون.. إنني أبارك لكم مولد هذا الإمام العظيم وكل أئمتنا هم عظماء ربانيون.. ﻷنهم أحياء عند ربهم يرزقون.. ولا يقول أحد منكم إذن لماذا أزماتنا لا تنفك عنا ونحن نتوسل إليهم وندعو الله!!
أولا.. إن الدنيا دار بلاء لكم أنتم النبلاء.. (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).
ثانيا.. ليس كل أزمة فيها ضرر.. (وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
ثالثا.. الحياة بلا صعوبات لا تصقل فيها شخصية الإنسان.. والحياة بلا امتحانات كيف يستحق بعدها الجنة.. (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ).
رابعا.. أئمتنا الأطهار (عليهم السلام) بأنفسهم عاشوا الآلام في مواجهة الظالمين والمعاندين فصبروا حتى رحلوا من الدنيا إما مقتولين وإما مسمومين.. (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ).
نستنتج.. بأن المعاجز واستجابة الدعاء أمور يتعامل بها أهل البيت (عليهم السلام) وفق الضوابط الإلهية لا وفق إملاءاتنا المزاجية.
فلا ننسى أيها المؤمنون أننا في عالم التكليف والمسؤوليات، وربنا عزوجل يريدنا رجال العمل وصناع المواقف كي نسمو إلى الهدف الذي خلقنا من أجله. حيث قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) والعبادة ليست الصلاة والصوم والحج والدعاء كما يحصرها فيها البعض.. بل هي أوسع من ذلك.. هي أن نجعل أنفسنا على الطريق الذي حدده الله لنا من الأخذ بالحلال وترك الحرام في كل شيء يحيطنا. وهذا ما شرحه النبي وأهل بيته (عليه وعليهم السلام) من خلال أقوالهم وأفعالهم. وهو ما تعبر عنه الأحاديث بإحياء أمرنا…
تأملوا في هذا الحديث الرائع الذي رواه عبدالسلام الهروي المعروف (أبا صلت) يقول سمعت الإمام الرضا يقول: “رحم الله عبدا أحيا أمرنا” فقلت: كيف يحيا أمركم؟ فقال: “يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فو الله لو علم الناس محاسن كلامنا لاتبعونا”.
هنا أربعة مفردات وهي رسالة الذكرى:
1. يؤكد الإمام الرضا على أهمية تعلم علوم محمد وآل محمد (يتعلم علومنا). فلنعرف إذن قيمة العلم وأن الجهل مرفوض عندهم (عليهم السلام). فلا تقبلوا لأنفسكم الجهل أيها الشيعة؟!
2. يؤكد الإمام على ضرورة التعليم ونشر ما تتعلمونه (ويعلمها الناس) ويعني أن لا نتوقف في الكتابة والخطابة والتحدث مع أي شخص حول علوم محمد وآل محمد بعد التمهيد ودراسة مقدمات التبليغ. فأنتم بمقدار علمكم الآن وجب عليكم أن تعلموا أهليكم وأصدقاءكم ما تعلمتموه.
3. يؤكد الإمام على حسن الإختيار.. فلا نختار كما يختار البعض من كلام سقيم منسوب إليهم كذبا.. أو كلام مبتور أو كلام غير معلوم القصد.. أو كلام صدر عنهم لحالة خاصة.. بل (محاسن كلامنا). من هنا عكف علماؤنا الأجلاء في الحوزات العلمية على البحث والتنقيب والفحص لمئات آلاف الأحاديث حتى فرزوا بين الصحيح والضعيف وبين المقبول والمدسوس.. فليس لأحد لم يدرس أن يأخذ حديثا ويتعصب له لمجرد أنه يتوافق مع مزاجه ومصلحته.
4. يؤكد الإمام بأن علومهم ومحاسن كلامهم لها علامة.. تلك هي إذا علمها الناس انجذلوا إلى قائليها واتبعوا مذهبهم. تفكروا جيدا عبر هذا المعيار ما هي تلك الأفكار التي يجب أن ننشرها لنكسب الناس إلى مذهب أهل البيت.. هل الأفكار الإزدرائية.. هل الدعوة إلى المواجهات.. هل هي ثقافة الكراهية.. أم عكس ذلك كانت سيرة محمد وآل محمد الأخلاقية المليئة بالحب والحكمة والسماحة والرحمة…
إن الذي يحب الإمام الرضا ويشارك في ذكرى مولده الشريف يجب عليه وعي رسالته من خلال هذا الحديث الذي اشتمل على منهج كامل للعلم والتعليم والذوق في الإختيار والتركيز على جذب الناس وهدايتهم.
هذه رسالة المولد الرضوي الشريف.. العمل بما قالوا.. والتأسي بما فعلوا.. وإلا انطبقت علينا هذه الآية -والعياذ بالله-:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).
أسأل الله لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح ودمتم موفقين لكل خير.