• مِن الآن:
ساهِم في تحرير عقلك…
الرسالة (4)
لماذا سُمّي العقل عقلًا؟
لأنه يَعْقِلُ صاحبَه عن ارتكاب القبائح واقتراف الآثام والمفاسد.
ويُقال له اللُبّ، لأنه خلاصة روح الإنسان والتي بها يتحقّق معناه في الإنسانيّة.
ويُطلَق عليه الحِجَا، لأن به يحتجّ صاحبُه على غيره في المناظرة.
ويسمّى الحِجْر، لأنه يحجر عن الوقوع في الرذيلة ويحول دونها ويمنع.
ومن أسمائه النُّهَى، لأن حكمه يكون نهاية الدليل إلى الصّواب، فما يصل إليه العقل السليم ليس بعده شيءٌ آخر.
نعمةٌ عظيمةٌ كهذه أليس من الظلم والغباء أن يعتقلها صاحبها في سجن الهوى ويقطع عنها سبيل الحركة والقيادة؟!
من هنا كانت دعوتنا إلى تحريره.. فلا تكن ممن يسجن عقله ويسلبه حرّيتَه ثم يحرم على نفسه نوره وخيره وعطاءه ويتحوّل إلى مصدر تصديع وتأزيم.
ويكون ذلك باتّباع الشهوات التي حدّدها الإمام علي (ع) في خمسة قائلًا: “ينبغي للعاقل أن يحترس من سُكر المال، وسُكر القدرة، وسُكر العلم، وسُكر المدح، وسُكر الشباب، فإنّ لكلّ ذلك رياحاً خبيثةً، تسلب العقل وتستخفّ الوقار”.
باحتراسك من هذا السُّكر فأنت تساهم في استثارة دفائن عقلك واستخراج كلّ كنزٍ مخبوءٍ فيه وما أكثره.
وهذه من مهامّ الرّسل والأنبياء كما وصفها الإمام عليّ (ع) في (نهج البلاغة): “…فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ…”.
فكم ستكون عظيمًا أنت ورائعًا لما تقرّر العمل في تحرير عقلك من تلك المكبِّلات الخمسة:
1/ المال؛ وما أدراك ما المال؟! وبه قد فَسَدَ ما لا يُحصى من البشر ولا زال.
2/ القدرة السياسية والحزبيّة والعسكرية؛ وهي التي سلبت العقول عن العدل والأمن.
3/ العلم؛ حيث أكثر الفتن من العلماء والمثقفين الذين اغترّوا ببعض ما لديهم ظنّوا أنهم يحيطون بكلّ شيءٍ علمًا، فراحوا يقولون ويكتبون بلا خشيةٍ من الله تعالى.
4/ المدح؛ وهو ما يسكر البعض ويخدّره بالفعل حتى يصدّق نفسه وينسى قبره!!
فما أكثر الذين إذا مدحوهم انصمّوا عن النقد البنّاء وأغلقوا عقولهم أمام مراجعة الذات.
5/ الشباب؛ طيشٌ وطغيان.. يسمّونه سنّ المراهقة. وهذه من ثقافة الغرب لتبرير فسادهم، وليس عندنا في الإسلام شيء بهذا المصطلح ولا المفهوم.
هذه كلّها رياحٌ خبيثة تسلب العقل حرّيته في القيادة إلى الورع والرزانة والأدب والعفّة والشّرف والمعرفة ورفعة التواضع ونُبل القِيَم النّاهضة من عمق الدّين الذي قال عنه الإمام الصادق (ع): “مَن كان عاقلًا كان له دين، ومَن كان له دين دَخَلَ الجنّة”.
فالعقل الإسلامي -في مذهب أهل البيت- متصلٌ بهدف الآخرة وإدخال صاحبه الجنة، حتى قال الإمام الباقر (ع): “إنّما يُداقُّ اللهُ العِبادَ في الحسابِ يومَ القيامة بمِقدارِ ما آتاهُم مِنَ العُقولِ في الدّنيا”.
لفظة (مِن) في “آتاهُم مِن العقول”.. تفيد وجود مستويات إن أخذناها تبعيضيّة، وتفيد المعيار والمِلاك إن أخذناها بيانيّة.
وفي كلا الحالَين تدلّ العبارة على توفُّر المادّة الأصليّة من نعمة العقل في كلّ إنسان وإنما عليه تنشيط مراحلها في التكامل وتنميتها بالعلم والتقوى. إلا الذين يُصابون بالجنون من الولادة أو بعدها فلا حَرَجَ عليهم ولا حساب. وهذا جزءٌ من عدالة الله ورحمته التي وسعت كلّ شيء.
بالتأسيس على ما سبق فإنّ مفاهيم الصلاح والإصلاح هي مما يحكم العقل بكلّياتها وبعض تفاصيلها ولكن بالتعاون مع الدّين في أحكامه التفصيليّة، كيف لا وهما حجّتان لله في داخل الإنسان (العقل) وفي خارجه (الدّين على لسان النبيّ وأوصيائه المعصومين).
تحرير العقل إذن هو بالإنفتاح على هذا الدّين، كما أنّ تحرير الدّين يكون بالإنفتاح على هذا العقل، وهو القاعدة التي أقرّها علماء الأصول في قولهم: (ما حَكَمَ به العقلُ حَكَمَ به الدّين، وما حَكَمَ به الدّينُ حَكَمَ به العقل).
هذا البيان يؤكّد لنا على أنّ مقوّمات الشخصية العقلانيّة الناجحة لن تنفصل عن حقيقة ما يريده الدّين الإسلامي الحنيف. وهذا الدّين لن يختلف مع عضيده العقل في سياق الهدف التمهيدي والهدف النهائي، وهو إيصال الفرد إلى الجنّة عبورًا به من الطاعة لله وللرسول ولأهل بيت الرسول.
ونختم رسالتنا هنا بالإشارة إلى المدرسة العلمانيّة التي غزتنا من الغرب بعد الثورة الفرنسيّة سنة 1789م إلى 1799م التي أطاحت بحُكم الكنائس المتخلّفة. فهي كردّة فعلٍ ضدّ دينٍ مزيّفٍ باسم النبيّ عيسى كانت مقبولة نسبيًّا، ولكن انتقالها بكلّ مساوئها إلى الشرق على ظهر المشاريع الإستعمارية لصناعة وكلاء وعملاء لهم في بلاد المسلمين كان ولازال مصدرًا للحرب على دين الإسلام الذي هو ليس كدينهم الكَنَسِيّ في الغرب.
فكلمة (العلمانيّة) تعني الدّنيَوية والمادّية. والإعتقاد بأنّ الأخلاق وطريقة السلوك يجب أن لا تكون دينيّة.
وقسّمت دائرة المعارف البريطانية الإلحاد إلى قسمين.. نظري وعملي. واعتبرت العلمانيّة من القسم الثاني. لعدم اعترافه بأيّ دينٍ من الأديان.
فالعقل الذي تفصله العلمانيّة عن الدّين وتفتح له الطريق الواسع لرسم خرائط العلم والسياسة والإدارة ونمط الحياة، ليس هو العقل الذي نتحدّث عنه في الإسلام.
ونحن بحكم ما يدّعيه العلمانيّون في الشرق من الحرّية ندعوهم إلى مراجعة قراءتهم لمفهوم الدّين الإسلامي ومفهوم العقل الفطري بعيدًا عن الفكر الغربي الذي نتجت عنه حضارة مادّية قائمةٍ على أساس المنفعة الفرديّة والتّحالفات الرأسماليّة التي تصدّر الحروب إلى بلدان العالَم الثالث -كما يسمّونها-.. وبعيدًا أيضًا عن السلوك الشرقي الذي لَبَسَ ثوب الدّين مقلوبًا لِيُروّج به ثقافة الجهل والتحجُّر وتكبيل العقل والتفكّر.
• أُنشُر…
لتساهم في تحرير العقول وحلّ الأزمات.
مع تحيّات:
عبدالعظيم المهتدي البحراني
24/محرم الحرام/1438
25/أكتوبر/2016