كيف نتخذ قرار
الدخول في شهر رمضان؟
تلخيصًا لكلمة سماحته ليلة الجمعة (26/شعبان/1437) في منطقة النعيم (المأتم الجنوبي) بمحافظة العاصمة (البحرين).
بسم الله الرحمن الرحيم
الصوم صومان.. صوم الأبدان وصوم الأنفس، صوم الخارج وصوم الداخل، صوم ظاهري متصل بالطعام والشراب والمادّيات وصوم باطني متصل بالقيم والأخلاق والمبادئ والمعنويات.
الصوم الثاني هو الهدف من الصوم الأول.. لأن الصوم الأول هو الطريق إلى الصوم الثاني.. بدليل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
الصوم المكتوب فقهيّاً هو القسم الأول من الآية الكريمة والصوم المطلوب غائيّاً هو القسم الأخير منها (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وذلك على نحو المقدَّمة وذي المقدَّمة.
الصوم الأول (المقدّمة) هو ما يفرح به الصائم عند الإفطار، والصوم الثاني (ذو المقدّمة) هو ما يفرح به عند لقاء الله كما قاله الإمام الصادق (عليه السلام): “للصائم فرحتان: فرحةٌ عند إفطاره، وفرحةٌ عند لقاء ربّه”.
وروى (عليه السلام): سَمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) امرأةً تسبّ جاريةً لها، وهي صائمة، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بطعام، فقال لها: كُلي. فقالت: إنّي صائمة، فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم): “كيف تكونينَ صائمة وقد سَبَبْتِ جاريتَكِ، إنّ الصومَ ليس مِن الطعامِ والشّراب”.
إنّ المؤمن الواعي لمعنى الصوم لا يكون صومه كما وصفه هذا الحديث الشريف: “كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش” بل هو الذي يريد من صومه التقوى ذلك الهدف الأساس الذي يكون مفتاحًا لدخوله الجنة حيث قال الله عزوجل: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ۖ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وطالما الهدف من الصيام هو التقوى وطالما أنّ الهدف من التقوى هو الجنة فلابد لنا من التمسّك بالصوم المنتج للتقوى لنبلغ به الجنة. تماماً مثل الطالب الذي يدرس ليحصل على الشهادة.. والشهادة يريدها من أجل التوظيف الذي يؤمّن له راحته المعيشية طول حياته. ومثل اللاعب الذي يتعب في التدريب وفي ملعب المباراة ليسجّل الفوز على الفريق الآخر ثم ليرفع الكأس الذهبي ويشتهر وهو يجد في الشهرة والثروة لذّته وراحته.
فهنا إذن ثلاث مراحل:
* التدريب والتعب. (صوم البدن).
* الفوز وشهادة النجاح. (التقوى).
* اللّذة والراحة. (الجنة).
وتأتي السطحية في التفكير الديني عند بعض الناس ليقطعوا بها طريق أنفسهم إلى الجنة فيصبّوا اهتمامهم في الصوم البدني ولا يبالون في اكتساب التقوى منه.. ولهذا لا يحقّقون الهدف من الأحكام الدينية وهو مفتاح الجنة أي التقوى.
فالصيام ليست لأجل الصيام نفسها حتمًا لأن خزائن الله لا تعاني من أزمة غذائية ولا شحّ في المياه كي يعلنها تقشُّفًا سنويًّا وهو الرزّاق ذو القوّة المتين.. بل الأزمة هي أزمة قيم إنسانية وشحٍّ في التقوى.. ودليلها معاناة البشرية في كل المجالات وفي طول التاريخ، فهي ما عاشت سعيدة إلا في تلك المساحات التي سادت حياتها قيم الأخلاق والتقوى. وأما المساحات الأكبر فقد كانت كئيبة بالفقر والحرمان وبالقهر والظلم والكذب والحروب والآلام…
هذه الحقيقة قصدها الإمام الصادق (عليه السلام) من قوله: “إنّ الصيام ليس من الطعام والشراب وحده ، إنما للصوم شرطٌ يحتاج أن يُحفظ حتى يتمّ الصوم ، وهو صمت الداخل ، أما تسمع ما قالت مريم بنت عمران: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) يعني صمتاً. إذا صُمتُم فاحفَظُوا ألسنتَكُم عن الكِذب، وغُضُّوا أبصارَكم ولا تَنازَعوا ولا تَحاسَدوا ولا تغتابوا ولا تَمارّوا ولا تكذبوا ولا تَباشَروا ولا تَحالَفوا ولا تغضبوا ولا تَسابّوا ولا تَشاتَموا ولا تَنابَزوا ولا تَجادَلوا ولا تَباذُّوا ولا تَظلِموا ولا تَسافَهوا ولا تَزاجَروا ولا تغفلوا عن ذكر الله”.
إننا أيّها الإخوة الكرام والأخوات الكريمات.. سيدخل علينا شهر الله بعد أيام أو ربما في اليومين القادمين، ينبغي لنا أن نتذكّر ماذا قد اكتسبنا من صيامنا في العام الماضي، ثم نفكّر ماذا سنكتسب منها في عامنا هذا إن قرّرنا قرارًا حاسمًا في التعامل السليم مع هذه الفريضة العظيمة. هذا ونحن لا ندري إن كنّا سنتوفّق لها في العام الذي بعده أم نكون في عداد الموتى وهم والله لو أذن الله لهم بالكلام لأخبرونا أن خير الزاد التقوى.
فالقرار الذي يجب اتخاذه قبل دخولنا في شهر رمضان هو قراران:
1/ قرار الصوم البدني بشروطه الفقهية وترك المفطرات التسع المذكورة في كتب فقهائنا المراجع.
2/ قرار الصوم النفسي باجتناب الرذائل وترك الصفات القبيحة والعادات السيئة والتصرفات التي تجلب سخط ربّ العالمين.
وهكذا قال الإمام علي (عليه السلام): “صومُ الجسد الإمساكُ عن الأغذية بإرادةٍ واختيار خوفًا مِن العقاب ورغبةً في الثواب والأجر. وصومُ النفس إمساكُ الحواس الخَمس مِن سائِر المآثم وخلوِّ القلب مِن أسبابِ الشرّ”.
وختاماً:
{اللّهُمَّ ماكانَ فِي قَلْبِي مِنْ شَكٍّ أَوْ رِيْبَةٍ أَوْ جُحُودٍ أَوْ قُنُوطٍ أَوْ فَرَحٍ أَوْ بَذَخٍ أَوْ بَطَرٍ أَوْ خُيَلاَء أَوْ رِياءٍ أَوْ سُمْعَةٍ أَوْ شِقاقٍ أَوْ نِفاقٍ أَوْ كُفْرٍ أَوْ فُسُوقٍ أَوْ عِصْيانٍ أَوْ عَظَمَةٍ أَوْ شَيٍْ لا تُحِبُّ فأَسْأَلُكَ يارَبِّ أَنْ تُبَدِّلَنِي مَكانَهُ إِيماناً بِوَعْدِكَ، وَوَفاءً بِعَهْدِكَ، وَرِضاً بِقَضائِكَ ، وَزُهْداً فِي الدُّنْيا، وَرَغْبَهً فِيما عِنْدَكَ، وَأَثَرَةً وَطمْأَنِينَةً وَتَوْبَةً نَصُوحاً، أَسْأَلُكَ ذلِكَ يارَبَّ العالَمِينَ… وَصَلّى الله عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ صلاةً دائِمَّةً لا تُحْصى وَلا تُعَدُّ وَلا يَقْدِرُ قَدْرَها غَيْرُكَ ياأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ}.